الشباب العراقي وروح الوطنية

07 يوليو 2018
+ الخط -
لم تنجح الأحزاب الدينية الطائفية في استقطاب الشباب العراقي، على الرغم من تسيدها المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي في العراق أكثر من 15 عاما؛ وقد تكون طبيعة التركيبة التربوية بشكل عام، وسوء إدارة هذه الأحزاب البلد وتأثرها بالتدخل الإيراني في شؤون العراق، من أهم أسباب جنوح الفئة الكبرى في التركيبة السكانية العراقية عن قبول فكرة المواطنة بحسب الطائفة، بديلا من روح الوطنية المطلقة للعراق.
ولافت أن يكون الشباب العراقي نموذجا فريدا في العالم في طريقة تحمله وتعامله مع ما تعرّض له منذ أكثر من ربع قرن؛ بدءا من الحصار الجائر على بلدهم عام 1990 وحتى احتلال الولايات المتحدة وحلفائها عام 2003، والدور الإقليمي السلبي والبغيض والمستمر في شؤون بلادهم، فشباب اليوم (15 - 25 عاما) ولد في أصعب مراحل العراق السياسية والأمنية والاقتصادية، وحرم من أبسط حقوق الطفولة ومزاياها، ثم شاهد، وهو في مقتبل عمره، تدمير بلاده، وإزالة الرموز التي تآلفت معها ذاكرته، في سرقات دول الاحتلال وقراراتها، وعاش ومورست بحقه (وما زالت) الضغوط الهائلة والمصوّبة لترويض عقيدته وأفكاره نحو تبني الفكر الطائفي، لمسخ هويته الوطنية أكثر من عقد ونصف العقد.
أنتجت الأحداث التي عصفت بالعراق منذ 2003 نماذج شبابية، كانت وما زالت مصدر قلق الجهات المتربصة بمستقبل هذا البلد ومتابعتها، فهذا الشباب كان في غالبيته رافضا الاحتلال، 
وكان يتعامل مع قوات الاحتلال ببغضاء كثيرة، مع عمل وتعاون كثيرين مع الحركات التي ظهرت لتقاوم المحتل في كل مناطق العراق. ولعل مراجعة بسيطة لنسبة الذين قتلتهم القوات الأميركية والبريطانية والمليشيات الموالية لإيران من الشباب، أو سجنتهم، تظهر حجم المشاركة الفعلية للشباب العراقي في رفض الواقع المراد فرضه على وطنهم، مقارنة بباقي الفئات العمرية للشعب.
تعاملت أميركا مع الشباب العراقي بعدة أوجه، منها الاستقطاب، من خلال برامج الإبهار بالنمط الأميركي، وترويجها استجلاب النموذج الديمقراطي الواعد للعراق، وكذلك التشجيع ضمنا على الهجرة، رسميا من خلال الدورات والبعثات وتوفير فرص العمل خارج العراق، أو بممارسة الضغوط الاقتصادية والأمنية والعلمية على الشباب، لترك بلدهم، وترك العراق للفئات العمرية الأقل تأثيرا في مشاريع التغيير المطلوبة، خدمة للمشروع الأميركي – الإيراني – الإسرائيلي.
أما إيران، وبعد عقدة حرب الثماني سنوات (1980-1988)، والتي أثبت الشباب العراقي فيها انتماءه الوطني، ونقاوة بنائه النفسي والعقائدي، وقتاله ببسالةٍ ضد الطرف الإيراني الذي كان يقوده أكبر المراجع الشيعية آنذاك (الخميني)، على الرغم من أن نسبة كبيرة من هؤلاء الشباب كانت (شيعية) المذهب، لكن تنامي الروح الوطنية وحسن إدارة الحرب وأدواتها من الحكومة العراقية آنذاك جعلت من موقف الشباب العراقي تجاهها عقدةً إيرانية، وضعت من أجلها الدراسات، واتخذت فيها القرارات التي نفذت، وتنفذ، لإخراجهم منها نحو اعتبارات أخرى، بعيدا من روح المواطنة الحقة، كان من أبرزها العصبية الطائفية، على اختلاف أشكالها ومراجعها، والتلاعب بمخرجات التعليم ومناهجه من رياض الأطفال وحتى الدراسة الجامعية، وصولا إلى تأسيس الجيش وقوى الأمن على أسس محاصصة طائفية معلنة.
تعامل الشباب العراقي مع المتغيرات الهائلة التي طرأت على العراق بموضوعيةٍ كثيرة وتكيف وقدرة على تحمل ما تعرضت له عوائلهم، وشواهد مدنهم وتاريخهم وثقافتهم. وأفرزت المقاهي والمنتديات عددا هائلا من الأدباء والشعراء والموسيقيين، من دون اكتراث يذكر لسياسات 
الترغيب والترهيب التي تعاملت بها أجهزة الدولة والمليشيات المتحكمة بالمشهد الأمني العراقي، حتى بات الشباب العراقي يمثل الكفّة الثانية في ميزان الحكم على حجم المتحقق من مشاريع تركيع العراق، ودفعه، بشكل منهجي، نحو التخلف والخروج عن محيطه العربي والدولي، فكانت قيم التسامح وقبول الآخر بديلا من الشحن الطائفي والقومي، وكانت حرية الانتماء السياسي والفكري بديلا من الديمقراطية الموعودة للغازي الأميركي، ثم كانت الروح الوطنية الخالصة للعراق رمزا وتاريخا ووطنا بديلا من اعتبارات طارئة، كولاية الفقيه وعبادة المذهب والاستجلاب المشوّه للتاريخ.
الآن، وبعد 15 عاما من الاحتلال، يتمثل المشهد الأساسي في هذا البلد في تسيّد طبقة الشباب (نسبتهم بالنسبة لباقي الفئات العمرية، بحسب إحصائيات وزارة التخطيط العراقية)، وهذا التسيّد ممتزج بوعي كبير بحقيقة ما يجري في بلادهم من مشاريع خارجية الغرض، تنامي روح العمل الوطني الجمعي، تطور تربوي ونفسي في بناء منظمات المجتمع المدني وتأسيسها، لكشف حجم الفساد والمظلومية في العراق، تطور الطاقات والمواهب أدبيا وفنيا وعلميا وسياسيا، والأهم رغبة هذه الطبقة الأكبر والأكثر تأثيرا في التغيير بالعراق. وهذه الرغبة في حالة تزايد وتعاظم مستمرين، وقد أثبتت الاعتصامات والتظاهرات والتجمعات الأدبية والسياسية ذلك، بما يحسب له الحاكم الشكلي والفعلي للعراق ألف حساب.
لعل المثير للتساؤل بقوة هنا؛ بشأن عدم وجود تيار وطني سياسي، يجمع جهود شباب العراق وآماله بالتغيير ويوجهها بعيدا ممن سرقوا المشهد السياسي في العراق أكثر من عقد ونصف العقد، بلباس الدين والطائفة أو ذوي الخطاب "الوطني" المبهرج. والتيار الوطني هنا قد يكون من أحزاب سياسية قائمة فعلا، أو من خلال تأسيس أحزابٍ نواتها شباب ومادتها شباب، وهو ما سيمكّن من تأسيس قاعدة جماهيرية عريضة خلفهم، بعيدا من نمطية التبعية التي ظلت سائدة تجاه هذه القائمة أو تلك.
F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن