يقود الحديث عن علاقة السينما بالتاريخ إلى حديث له علاقة بالوثائق المرئية، ومساهمتها في تجديد البحث التاريخي، المندرج في صلب الثقافة العربية المعاصرة، وإشكالياتها الراهنة؛ وإلى حديثٍ عن ضرورة طرح سؤال السينما في البحث التاريخي، بكونها وثيقة تاريخية تختزن علامات بصرية عديدة، هي نتاج التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي. وأيضاً بفضل سلطتها وقوتها في كشف المخبّأ، فالسينما أقدر الفنون البصرية على كشف المستور في التاريخ العربي، في محاولة تفكيك ثنائية "الصدق ـ الكذب" في أحداثه. تؤدي السينما دوراً كبيراً في توثيق التاريخ وجعله مادة دسمة للتخيّل، وفق مستويات عديدة من السرد، رغم التداخل التلقائي بين الواقع والمتخيّل في الصورة السينمائية. مع ذلك، تبقى السينما صادقة في التأريخ، فمادته الأرشيفية لم تُستنفد بعد. السينما الكولونيالية مثلاً لم تمسّ هذه المادة ولم تُقاربها، ولم تجعلها منطلقاً للتفكير في حيثيات الواقع المغربي قبل الاستقلال. هذه هي الأهمية الكبرى التي تكتسبها الصورة كوثيقة تاريخية، لأنّها قادرة على التقاط مكبوتات المجتمع، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، بطرق مختلفة ومتباينة في تعاملها مع المجتمع والتاريخ، برصد التمثّلات وسلوك الأفراد إزاء الواقع.
في كتاباته عن السينما والتاريخ، لم يتوانَ المفكّر الفرنسي المعاصر مارك فيرّو عن التأكيد على ضرورة إعمال السينما كوثيقة تاريخية، لأنها تكشف الوجه الآخر للمجتمع وجوانبه المنسية، والتي ربما لا ينتبه المؤرّخ إليها، بينما يُمسك المخرج السينمائي بتلابيبها، ويُعيد معها مسرحة اللحظة تاريخياً، بطريقة لا يُمكن للمخيّلة نسيانها، أكثر مما يُمكن قراءته في كتب تاريخية، تندثر غالباً من المخيّلة الفردية. فللسينما سحر خاص يتسرّب عبر العين إلى العقل، ومنه إلى الجسد، الذي يتفاعل معها بحسب قوّة الحدث التاريخي أو ضعفه. والتفاعل، الذي يترجمه الجسد، يستحضره العقل لحظة تذكّر الحدث، ما يجعل الصورة أقوى من غيرها على حفظ التاريخ وتملّكه، مقارنة باللغة التي، مهما تكن طبيعة خطابها، تظلّ قاصرة، وأقلّ حدّة من التأثير الذي تمارسه الصورة، بالتقاطها اللامُفكّر به في التاريخ.
معروفٌ أن تَشكّل مفهوم التاريخ وبلورته واستحضاره، تتمّ بطريقتين: الأولى كوثيقة تاريخية، تستثمره الصورة الفوتوغرافية، مُكتسبةً شرعيتها في التأريخ لثبوتها وصنميّتها. الثانية كمادة تاريخية، تُصرَف في مُنجز سينمائي، بطريقة يغدو التاريخ معها حكايةً متخيّلة، تتفلّت من أيّ نزعة تقريرية أو تعليمية، وبفضلها تُستشفّ معرفة تاريخية. في هذه الحالة، تتحوّل إلى حدث جمالي، تكمن قيمته في مدى تخييله وفنيّته، لا في صدقه والمحافظة على وقائعه. هذا ما يجعل السينما مختلفة عن الصورة الفوتوغرافية في تفاعلها مع التاريخ، لأنّها (السينما) تعمل على تذويب التاريخ في قالبٍ سينمائي متخيّل، وبالتالي لا يعنيها التاريخ إلا بوصفه فضاءً يُصبح متخيّلاً.
اقــرأ أيضاً
هذه الطريقة تُنتج ما يُسمّى أفلاماً تاريخية، تتناول سِيَر شخصيات تاريخية وأحداثاً سياسية مهمّة في التاريخ القديم (الرومان واليونان والعرب مثلاً). السينما الأميركية والروسية تستمدّ من التاريخ ووقائعه مادتها، لكن بطريقة يصبح التخييل فيها سيّد الصورة لا التاريخ نفسه. هذا التزاوج الفني بين السينما والتاريخ في وجهه الثاني يساعد على رصد مظاهر حياة الشعوب وسلوكيات أفرادها في المجتمع، لأنه يكشف عن الوعي التاريخي للشعوب العربية مثلاً، ولمتخيّلها المكبوت. فبسبب حركيّتها، يسهل ذيوع الصورة السينمائية في الأوساط الشعبية، وتصبح خطاباً ثائراً، تُمرَّر عبرها رسائل سياسية وأيديولوجية، كمساهمة في التغيير السياسي والاجتماعي للواقع العربي.
تُشكّل أفلام "درب مولاي الشريف" (2004) لحسن بنجلون و"ذاكرة معتقلة" (2005) لجيلالي فرحاتي و"جوهرة بنت الحبس" (2003) لسعد الشرايبي مثلاً وثائق تاريخية عن حقبة تاريخية مغربية جريحة، ساهمت الدولة خلالها في إجهاض المشروع السياسي النهضوي الديمقراطي الذي تبنّاه اليسار المغربي آنذاك، ما أدّى إلى اعتقالات سياسية حينها.
الوثائق المكتوبة محتجزة، والمتوفر منها قليل يُمكن الحصول عليه، أو على بعضه، من عائلات المناضلين، لكن لا يُمكن إظهارها بسبب الجرح الكبير غير المندمل بعد، الذي حفرته تلك المرحلة في نفوس المغاربة، وبسبب الأخطاء المرتكبة حينها، التي لم تُصحّح لغاية الآن. ورغم إنشاء الدولة، مع بعض جمعيات المجتمع المدني، "هيئة الإنصاف والمصالحة"، بداية القرن الـ21، إلا أنها لم تنجح في استقطاب باقي النخب الثقافية والسياسية المتضرّرة مع عائلاتها بسبب تلك الاعتقالات.
صحيحٌ أن الفيلموغرافيا التي تناولت هذه المرحلة لم تنجح لعدم جرأتها في تصوير الواقع بجراحه وآلامه، إلا أنّها تشكّل وثائق بصرية طرحت أسئلة عن تلك الحقبة التاريخية المؤلمة، بسبب ندرة المكتوب عن التاريخ المعاصر للمغرب، نظراً إلى الرقابة والمنع اللذين يمارسان في هذه المسألة. أما المتوفّر منها، فشهادات يتداخل فيها الواقعيّ بالتخييلي. مع ذلك، نجحت تلك الأفلام، وغيرها أيضاً، إلى حدّ كبير، في تخييل التاريخ وجعله يحتلّ مكانة مركزية في متخيّلها السينمائي، وساهمت في دحض سياسات المنع، وتقوية أواصر علاقة المغاربة بحرية الرأي، والتطرّق إلى تابوهات السياسة والسلطة والجسد، وغيرها.
في كتاباته عن السينما والتاريخ، لم يتوانَ المفكّر الفرنسي المعاصر مارك فيرّو عن التأكيد على ضرورة إعمال السينما كوثيقة تاريخية، لأنها تكشف الوجه الآخر للمجتمع وجوانبه المنسية، والتي ربما لا ينتبه المؤرّخ إليها، بينما يُمسك المخرج السينمائي بتلابيبها، ويُعيد معها مسرحة اللحظة تاريخياً، بطريقة لا يُمكن للمخيّلة نسيانها، أكثر مما يُمكن قراءته في كتب تاريخية، تندثر غالباً من المخيّلة الفردية. فللسينما سحر خاص يتسرّب عبر العين إلى العقل، ومنه إلى الجسد، الذي يتفاعل معها بحسب قوّة الحدث التاريخي أو ضعفه. والتفاعل، الذي يترجمه الجسد، يستحضره العقل لحظة تذكّر الحدث، ما يجعل الصورة أقوى من غيرها على حفظ التاريخ وتملّكه، مقارنة باللغة التي، مهما تكن طبيعة خطابها، تظلّ قاصرة، وأقلّ حدّة من التأثير الذي تمارسه الصورة، بالتقاطها اللامُفكّر به في التاريخ.
معروفٌ أن تَشكّل مفهوم التاريخ وبلورته واستحضاره، تتمّ بطريقتين: الأولى كوثيقة تاريخية، تستثمره الصورة الفوتوغرافية، مُكتسبةً شرعيتها في التأريخ لثبوتها وصنميّتها. الثانية كمادة تاريخية، تُصرَف في مُنجز سينمائي، بطريقة يغدو التاريخ معها حكايةً متخيّلة، تتفلّت من أيّ نزعة تقريرية أو تعليمية، وبفضلها تُستشفّ معرفة تاريخية. في هذه الحالة، تتحوّل إلى حدث جمالي، تكمن قيمته في مدى تخييله وفنيّته، لا في صدقه والمحافظة على وقائعه. هذا ما يجعل السينما مختلفة عن الصورة الفوتوغرافية في تفاعلها مع التاريخ، لأنّها (السينما) تعمل على تذويب التاريخ في قالبٍ سينمائي متخيّل، وبالتالي لا يعنيها التاريخ إلا بوصفه فضاءً يُصبح متخيّلاً.
هذه الطريقة تُنتج ما يُسمّى أفلاماً تاريخية، تتناول سِيَر شخصيات تاريخية وأحداثاً سياسية مهمّة في التاريخ القديم (الرومان واليونان والعرب مثلاً). السينما الأميركية والروسية تستمدّ من التاريخ ووقائعه مادتها، لكن بطريقة يصبح التخييل فيها سيّد الصورة لا التاريخ نفسه. هذا التزاوج الفني بين السينما والتاريخ في وجهه الثاني يساعد على رصد مظاهر حياة الشعوب وسلوكيات أفرادها في المجتمع، لأنه يكشف عن الوعي التاريخي للشعوب العربية مثلاً، ولمتخيّلها المكبوت. فبسبب حركيّتها، يسهل ذيوع الصورة السينمائية في الأوساط الشعبية، وتصبح خطاباً ثائراً، تُمرَّر عبرها رسائل سياسية وأيديولوجية، كمساهمة في التغيير السياسي والاجتماعي للواقع العربي.
تُشكّل أفلام "درب مولاي الشريف" (2004) لحسن بنجلون و"ذاكرة معتقلة" (2005) لجيلالي فرحاتي و"جوهرة بنت الحبس" (2003) لسعد الشرايبي مثلاً وثائق تاريخية عن حقبة تاريخية مغربية جريحة، ساهمت الدولة خلالها في إجهاض المشروع السياسي النهضوي الديمقراطي الذي تبنّاه اليسار المغربي آنذاك، ما أدّى إلى اعتقالات سياسية حينها.
الوثائق المكتوبة محتجزة، والمتوفر منها قليل يُمكن الحصول عليه، أو على بعضه، من عائلات المناضلين، لكن لا يُمكن إظهارها بسبب الجرح الكبير غير المندمل بعد، الذي حفرته تلك المرحلة في نفوس المغاربة، وبسبب الأخطاء المرتكبة حينها، التي لم تُصحّح لغاية الآن. ورغم إنشاء الدولة، مع بعض جمعيات المجتمع المدني، "هيئة الإنصاف والمصالحة"، بداية القرن الـ21، إلا أنها لم تنجح في استقطاب باقي النخب الثقافية والسياسية المتضرّرة مع عائلاتها بسبب تلك الاعتقالات.
صحيحٌ أن الفيلموغرافيا التي تناولت هذه المرحلة لم تنجح لعدم جرأتها في تصوير الواقع بجراحه وآلامه، إلا أنّها تشكّل وثائق بصرية طرحت أسئلة عن تلك الحقبة التاريخية المؤلمة، بسبب ندرة المكتوب عن التاريخ المعاصر للمغرب، نظراً إلى الرقابة والمنع اللذين يمارسان في هذه المسألة. أما المتوفّر منها، فشهادات يتداخل فيها الواقعيّ بالتخييلي. مع ذلك، نجحت تلك الأفلام، وغيرها أيضاً، إلى حدّ كبير، في تخييل التاريخ وجعله يحتلّ مكانة مركزية في متخيّلها السينمائي، وساهمت في دحض سياسات المنع، وتقوية أواصر علاقة المغاربة بحرية الرأي، والتطرّق إلى تابوهات السياسة والسلطة والجسد، وغيرها.