السيسي ومحمد علي: فرجة نادرة من مسرح الشارع

21 سبتمبر 2019
لأول مرة يغامر حاكم بمنافسة مواطن على المسرح(فرانس برس)
+ الخط -
بقيت أجهزة دعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تؤدي وظيفتها من دون منافس محلي، تجاه منصات تلفزة خارجية، ومنشورات وتغريدات ووسوم وبث فيديوهات عابرة للدولة، حتى بزغ المقاول المصري محمد علي، وجر السيسي عنوة، وبأقل ما يستر عوراته، إلى فرجة مسرحية نادرة في التاريخ السياسي العربي، ومجاناً دون تذاكر.

فالتقاليد السياسية العربية تترك مسافة بينها وبين مسرح الشارع، بما يضمن لها الوقار، وترك الحركة العامة تحت المراقبة وقياس الأداء الشعبي والشعبوي، حتى إنها لا تدخل كلمة "الشارع" ضمن معجمها إلا حين تحتاجه، لثورة أو انقلاب.

الشارع في الثورة ضرورة أولى للنخبة السياسية، وذات الشارع ضرورة لما بعد الانقلاب مباشرة ليكون البيان رقم واحد باسم الشارع. أما مسرح الشارع فهو متعة فنية، إلا إذا فكر الممثلون أن يخرجوا عن النص، فيتكفل بهم رقيب شرطي أو رقيب في جهاز الرقابة على المصنفات الفنية.

حين تترسخ التقاليد، يفكر السياسي العربي بمسافة الأمان، ومن ذلك فرض هيبة الدولة التي تترفع عن شارع بلا تقاليد. صحيح أنه قد يعبره ناس يقدرهم النظام، ولكنه في نظر الدولة، الحيز العام الذي يجمع رجرجة ودهماء وغوغاء، يمكن إدارتهم وسوقهم بالحسنى، ومن الرقاب، دون أن يقترب معجم الدولة الرفيع من رطانة الشارع. هذه الرطانة تبقى محتقرة، حتى يحين دورها، فتعبّأ بالشعارات إلى أن نقطع المنعطف، وتستقر الأمور.

في الحالة المصرية لم يمض إلا وقت قصير بعد حكم السيسي، حتى أصبح الرجل مزوداً رائعاً لمواد الفيديو الفكاهية. لكن الفكاهة تحتاج إلى منسوب ولو متواضع من الهواء الطبيعي، وهذا بات في مصر أمراً عزيزاً. إن الرجل الذي يهبهب، ويخلط الزيت بالماء حين يتكلم هو ذاته الذي يسحب الأرواح كما تسحب الشعرة من العجين، بلا حس ولا خبر.

بنفس تركيبة الشخص المتوحد في الحكم، تنطلق أجهزة السيسي الإعلامية الدعائية، وهذه وظيفتها أن تشرح دلالات خلط الزيت بالماء، والحابل بالنابل في خطاباته، وحواراته، وتعليقاته، بوصفها فتوحات لا تصدر إلا عن موهبة.

إن إطلاق الألقاب المستهزئة على السيسي بدأ مبكراً، لكن ذلك كان يصطدم على الدوام بما يسمى في أنظمة حماية الكمبيوتر الجدار الناري. فلم يقع السيسي نهباً للانتقادات العامة، بسبب تجريف الحياة السياسية. لم يترك منبر في البلاد إلا تسيده المسبحون بحمده، المحذرون الشارع من الويل والثبور، إذا اهتزت شعرة في رأس مصر الشهيرة على لسان السيسي بـ "مسر".

وقع الانقلاب باسم الشارع، وبدأ السيسي يطيل القبض على الميكروفون من دون ناصح ينصح. فلا هو فيدل كاسترو الفصيح حتى يدخل موسوعة غينيس في قوة وطول خطاباته، ولا هو الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الزاهد في الخطابة والمدرك حدوده.

وبدا الأمر هكذا، السيسي ومعه جهاز تلفزيوني لا يقل ضحالة. على هذا الجهاز أن يبدي إعجابه بحقيقة لا يدانيها أي شك، وهي بقاء الرئيس عشر سنوات بثلاجة ليس فيها سوى الماء، وأنه مع المصريين "فقرا قوي"، إلى أن جاء محمد علي مقاول الجيش والفنان بحصيلة تلفزيونية وسينمائية غير كبيرة.

على الجميع أن يحضر إلى مسرح الشارع. الدولة بهيلمانها وجيشها وغلمان الدعاية، مقابل شخص طبيعي طوله 180 سنتمتراً، بقميص "شبابلك" مفتوح الأزرار، وعلى وسامة نموذجية لشاب عبر بقدميه الطبقة الوسطى، واشتغل مقاولاً لقصور الرئاسة ضمن منشآت أخرى للجيش، وربح مالاً وفيراً. وفجأة ظهر عبر موبايله فكان ما كان.

لا القصور جديدة في عالم السياسيين، ولا الكذب جديد. كل ما في الأمر أن السيسي المغرم بالميكروفون أرغم على أن يكون في مسرح الشارع، مقابل أحد مواطنيه.

وللمرة الأولى لا يوجد جدار ناري. فالرئيس الذي يطلب من الشعب أن "يصبّح على مصر بجنيه" أمام فرد يخبر الناس بأنه يهدر مئات الملايين على قصوره التي كان محمد علي مقاولاً فيها.

ولأول مرة يصبح المشاهد أمام مؤديين في مسرح الشارع، أحدهما لديه ملَكة التقديم، والآخر رئيس لم يجرؤ أحد طوال السنوات السابقة على نصيحته مجرد نصيحة بأن يكف عن تشويه صورة منصور في مدرسة المشاغبين، الذي كان يردد "أنا منصور ابني.. أنا منصور البتاع".

لا يمكن لمسرح الشارع إلا أن يكون نجمه محمد علي، فهناك فوارق هائلة في الحضور الشخصي، لصالح المقاول الفنان الذي يتحدث بلهجة مصرية فصحى، وبصوت واثق، ومصداقية مردّها أن الشخص لا يبدو غريباً عن روح البلد، حتى لو اتهم بأن قضيته خصومة مالية مع الجيش.

الأهم من كل ذلك أن محمد ليس طرفاً سياسياً يعرف الآخرون من أين تؤكل كتفه، إنما رجل أشرف على قصور بما فيها من صالات فخيمة ومراحيض يلبى فيها نداء الطبيعة، وأشرف على دفن والدة الرئيس بمبلغ طائل يكفي لدفن آمال شعب.

مقابل هذا، بدا السيسي في المواجهة فرداً لفرد، معلناً أنه بنى بالفعل قصوراً، ولكن لفائدة الشعب، المخلد الذي سيرث حتماً كل شيء، مع العلم، وتحديداً علم أي ولد في السادس الابتدائي جيم، أن القصور هائلة العدد في مصر يسكنها أربابها الحكام وحاشياتهم، إلى أن تنتهي الآجال، فيرثها الحكام، ويرث الشعب شارعه.

لأول مرة يغامر حاكم عربي بمنافسة مواطن على المسرح، فيخسر الحاكم، تلك الخسارة التي كان ينبغي أن تقع مبكراً لولا الغطرسة والفهلوة.

إلا أن ما استدعاه الناس فور طلوع صوت وصورة محمد علي، أنه قام بما عجزت عنه قوى سياسية بأكملها. هذا مثير للأسف. على مسرح الشارع كان فقط اثنان: السيسي ومحمد علي. لكأن بلادنا مكتوب عليها أن يضيّعها فرد فننادي صلاح الدين، ويحكمها ظالم فننادي عمر بن عبد العزيز، ويشرشحها سيسي فننتظر هاشتاغ #محمد_علي_فضحهم.
المساهمون