استغل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ظهوره فيما يسمى "المؤتمر الوطني للشباب"، الذي عقد في فندق "ألماسة" التابع للجيش، الأربعاء الماضي، لتوجيه رسائل سياسية عديدة، للداخل والخارج، بشأن 3 قضايا إقليمية رئيسية، معبراً عن رؤيته للدور الذي يلعبه في المنطقة، وكذلك للصورة التي يريد المشهد السياسي المصري عليها للسنوات المقبلة. وطرحت بعض رسائل السيسي بشأن القضايا الداخلية علامات استفهام عديدة حول رؤيته ودائرته الخاصة لمستقبله شخصياً في الحكم، في وقت تتصاعد فيه المطالبات والمزايدات لإجراء تعديل دستوري يضمن استمراره في السلطة، بعد انتهاء ولايته الثانية، التي لم تبدأ رسمياً حتى الآن، في العام 2022.
وتحدث السيسي على مدار 7 ساعات كاملة تقريباً، تخللها طرح بعض الأسئلة من المواطنين بعد انتقائها من صفحات الرئاسة الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي. وتعمدت دائرة السيسي الخاصة، برئاسة اللواء عباس كامل، اختيار أسئلة تسمح للرئيس بإبداء رأيه في جميع القضايا الإقليمية السياسية والاقتصادية، ليكرر طرح رؤيته الخاصة، التي تنأى بمصر عن الدخول في نزاعات مع أي من الأطراف الإقليمية المتنازعة حول سورية تحديداً، وفي مقدمتها السعودية وروسيا وإيران، مرسخاً ما يمكن وصفه بتصفير الدور المصري في تلك القضية.
رسالة السيسي في الملف السوري وملف الصراع السعودي الإيراني في اليمن والعراق كانت واضحة، مفادها أن القاهرة ستستمر في الاتجار بالتصريحات الرنانة عن حرصها على الأمن القومي الخليجي باعتباره مدخلاً للأمن القومي المصري، لكن دون أن تساهم في أي عمل عسكري من شأنه تأجيج الصراع الإقليمي، فالمنطقة "لا تحتمل أي حرب جديدة" حسب تعبيره، حتى إذا تعلق الأمر بسورية واليمن. ورغم التقارب الشديد بين السيسي وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، فإن الرئيس المصري ذهب لأبعد من ذلك، وتحدث في موضوع شائك لم يسبقه له رئيس مصري، وهو الصراع المذهبي بين السنة والشيعة، والذي يعتبر من الأسس الدائمة لتوتر العلاقة بين الخليج وإيران. واعتبر السيسي أن هذا الصراع يضر بجميع الأطراف، وأن على الدول المختلفة الابتعاد عن تأجيج النزاعات على أساس ديني، وهو موضوع كانت القاهرة تتحاشى من قبل الدخول فيه، بل إنها عرفت على الدوام بسياسة متشددة غير معلنة إزاء المواطنين الشيعة بسبب الحساسيات القائمة مع إيران منذ نشأة الجمهورية الإسلامية. ولا يغيب عن ناظر أن التهدئة الرسمية بين مصر وإيران مرتبطة بشكل أساسي بالعلاقات المتطورة بين السيسي ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين. فرغم وجود خلافات في بعض أوجه العلاقات الثنائية، إلاّ أن الرهان المصري على موسكو كداعم دولي مهم للنظام حاضر منذ صعود السيسي للسلطة، في ظل نشوب خلافات دائمة مع واشنطن، بعضها معلن والبعض الآخر خفي، لا سيما مع استمرار تعليق جزء من المعونة الأميركية لمصر وتداول مقترحات في الكونغرس لتخفيضها بشكل عام.
وخلال العامين الماضيين، فتح السيسي قنوات اتصال مع الإيرانيين عن طريق العراق، بإقامة علاقات جيدة بالقوى العراقية المقربة لإيران، ووقع معها اتفاقيات لاستيراد النفط على الأمد الطويل، خلال فترة برود العلاقات مع السعودية، بين توقيع اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير وإصدارها رسمياً. وأصر السيسي، بتعامله الصفري في الملف السوري، على عدم اتخاذ مواقف تغضب السعودية أو تقف عائقاً أمام روسيا، بل مضى لأبعد من ذلك بتطوير التنسيق الأمني والاستخباراتي مع نظام بشار الأسد بدءاً من أكتوبر/تشرين الأول 2016، إذ زار رئيس مكتب الأمن الوطني في النظام السوري، اللواء علي المملوك، القاهرة، وعقد مباحثات مع مديري الاستخبارات العامة والأمن الوطني المصري، وكانت بداية للقاءات متكررة في القاهرة أسفرت عن اتفاقيات لتبادل المقبوض عليهم والموقوفين واستضافة القاهرة جولات حوارية بين الأطراف السورية التي تقبل باستمرار نظام الأسد كجزء من المستقبل السوري برعاية روسية. وكانت هذه العلاقة على غير هوى السعودية في ذلك الوقت، إلاّ أن السيسي استطاع استثمارها لإقناع الرياض بلعب دور الوساطة بين الرياض ودمشق والعواصم الداعمة للأسد مستقبلاً، وذلك بما لا ينال من استمرار مشاركة القاهرة في التصعيد الدعائي ضد إيران تحديداً، وتكرار عبارات من نوعية "أمن الخليج خط أحمر بالنسبة لمصر".
الملف الثاني المهم هو القضية الفلسطينية. فبالتزامن مع زيارة قصيرة لوفد من حركة "حماس" للقاهرة، واستمرار مسيرات العودة في غزة والتعامل الإسرائيلي الغاشم معها، يخرج السيسي بصفته رئيسا مصريا ويتفوه بعبارات لم يدلُ بها أي من أسلافه، مفادها أن مصر "ما تقدرش" (لا تستطيع) تفعل أي شيء للأوضاع في غزة أو مسألة نقل السفارة الأميركية إلى القدس، أكثر من فتح معبر رفح وتقديم الأدوية والأغذية للمتضررين الفلسطينيين. هذه الرسالة معروفة ضمنياً بالتأكيد في الأوساط الرسمية، وكذلك الشعبية، لكن الإعلان عنها بهذه الصورة مقصود به القضاء على أي أحلام تبقت بين المصريين بأن يتولى بلدهم زمام المبادرة في القضية الفلسطينية، فهي رسالة موجهة للداخل، غرضها وضع الأمور في نصابها الواقعي، وعدم الإفراط في تصورات لدور إقليمي مأمول لمصر تحت قيادة السيسي، كما تهدف للفصل بين مسار القضية الفلسطينية والإطار المنكفئ الذي يرسمه السيسي لبلده، بزعم أن هذا يحمي مصر من أضرار أصابت دولاً أخرى، كسورية والعراق واليمن وليبيا والصومال، حسب تعبير السيسي في المؤتمر ذاته.
أما الملف الإقليمي الثالث الذي أفرد له السيسي مساحة كبيرة من حديثه، فهو الخاص بقضية سد النهضة، مواصلاً توجيه رسائله المطمئنة للشعب المصري والموحية بتحقيق تقدم في المفاوضات التي ما زالت تراوح مكانها، انتظاراً لتنفيذ الاتفاقات التمهيدية الموقعة في أديس أبابا منذ 4 أيام، بحثاً عن حل جذري للتعامل مع فترة ملء خزان السد، للمرة الأولى، والتي تهدد مصر بتفاقم معاناتها مع الفقر المائي. ورفض السيسي وصف المفاوضات الثلاثية حتى الآن بـ"الفاشلة"، زاعماً أن القاهرة حققت تقدماً ملحوظاً، مواكباً بذلك تعليمات صدرت من دائرته لوسائل الإعلام المصرية للترويج لنجاح جولة المحادثات التساعية الأخيرة، وإشاعة أجواء إيجابية بشأن قرب التوصل إلى اتفاق يراعي حقوق مصر المائية، وذلك لامتصاص القلق والغضب الشعبي الذي تولد بعد إقرار البرلمان لقانون يفتح الباب لمنع زراعة أصناف معينة من الأرز والقصب وباقي المحاصيل المستهلكة لكميات كبيرة من المياه، الأمر الذي أصاب المجتمع بالإحباط من احتمال استسلام النظام للأمر الواقع الذي تحاول إثيوبيا فرضه. وكان السيسي أول رئيس مصري يصرح بأنه "لا توجد أزمة من الأساس حول سد النهضة"، وذلك بعد اجتماع في أديس أبابا مع نظيره السوداني، عمر البشير، ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق، هايلي ميريام ديسالين، على هامش حضورهم قمة الاتحاد الأفريقي، في الوقت الذي تستمر فيه المناوشات الإعلامية بين القاهرة والخرطوم بسبب ميل الأخيرة لمواقف أديس أبابا، وعدم دعمها للمقترحات المصرية بالإدارة المشتركة لفترة ملء الخزان الأولى.