السياق الأوسع لجرائم داعش

06 فبراير 2015
+ الخط -
لا شك في أن طريقة الإعدام حرقاً التي نفذها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بحق الطيار العسكري الأردني، معاذ الكساسبة، تتجاوز كل حدود الهمجية التي عرف بها هذا التنظيم، غير أنه ليس وحيداً في ساحة ارتكاب مثل هذه الجرائم البشعة والمقززة. فثمة أنظمة عربية، تُدْرَجُ في قائمة "المعتدلين"، غربياً، ارتكبت، ولا تزال، جرائم لا تقل همجية عن جريمة داعش هذه. كما أن ثمة أنظمة عربية أخرى، يعدها بعضهم، من أنظمة المقاومة والممانعة، لا تتوانى، لحظة، عن ارتكاب مجازر جماعية، يومياً، بحق مواطنيها في سبيل تثبيت حكم طاغية. دع عنك، أصلا، ارتكاب الغرب "المتحضر" نفسه، وربيبته المدللة، إسرائيل، جرائم ضد الإنسانية، لا تعد ولا تحصى، تفوق جرائم داعش.
أردت من المقدمة السابقة، أن أُذكّر بأن هذا المسلك الإجرامي ليس محصوراً، فحسب، في تيارات متطرفة، تتبنى تفسيراً شاذاً للإسلام، بل إنها تتجاوز ذلك لتكون نهجاً لدى كثيرين، سواء باسم الإسلام أو باسم "الإنسانية" و"الحضارة"، أو تحقيق الأمن والاستقرار.
فمن قبل، فتكت أوروبا بنفسها في حربين عالميتين مدمرتين، ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من البشر الأبرياء، واستخدمت فيهما كل أنواع الأسلحة "المحرمة" وغير "المحرمة" (وكأن ثمة فوارق حقيقية هنا لناحية النتيجة)! أيضاً، لم تتورع الولايات المتحدة عن قتل عشرات الآلاف من المدنيين اليابانيين في مدينتي هيروشيما وناغازاكي، بقنبلتين نوويتين عام 1945، على الرغم من أنها كانت تعلم أن اليابان كانت على وشك إعلان الاستسلام في أواخر أيام الحرب العالمية الثانية. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن قتل مئات آلاف العراقيين خلال العدوان الأول عليه مطلع عام 1991، ثم الحصار الوحشي الذي تلاه أكثر من عقد، قبل غزوه واحتلاله كلياً عام 2003. ولا تشذ إسرائيل عن قواعد الوحشية هذه، ويكفي التذكير، هنا، بالاعتداءات التي شنتها على قطاع غزة، أعوام 2008/2009، 2012، و2014، واستخدامها، الموثق، أسلحة كثيرة "محرمة" دولياً، كالفسفور الأبيض.
ما ذُكر أعلاه قطرة في بحر واسع من الجرائم الغربية والإسرائيلية في حق الشعوب المستضعفة، وهذه الجرائم ليست محصورة في محور المعسكر "الإمبريالي"، فحسب، حيث إن الاتحاد السوفييتي، "نصير" الشعوب المستضعفة، لم يكن أقل إجراماً، كما في القرم وأوروبا الشرقية وأفغانستان والشيشان. كما أنها ليست محصورة في أفعال دول، بل إن جماعات ومنظمات كثيرة، مارستها، ولا تزال اليوم، كميليشيات أنتي-بالاكا، التي تقوم بعمليات "تطهير ديني" مروعة ضد المسلمين في جمهورية أفريقيا الوسطى.
لا ينبغي أن يصرف ما سبق انتباهنا عن أن ثمة خللاً حقيقياً في منظومتنا الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية في المنطقة العربية والإسلامية. سيجادل بعضهم في أن الغرب والأنظمة العربية المرتبطة به، فضلاً عن المحور الإيراني، يسلطون الأضواء على الجرائم التي ترتكبها تنظيمات، كداعش، والقاعدة، في حين يغضون الطرف عن الجرائم التي يرتكبونها هم، وهذا صحيح. ولكن، مرة أخرى، فإن جرائم طرف لا تبرر جرائم طرف آخر، فالجريمة هي جريمة بغض النظر عن مرتكبها، لكنها تغدو أقبح، عندما تُلْبَسُ لبوس الإسلام.
في فضائنا العربي، ليست جرائم القاعدة وداعش معزولة عن سياق أوسع من الجرائم التي
ترتكبها الأنظمة العربية بحق شعوبها. تُرى، هل نسينا مجزرتي فض اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة في مصر في صيف عام 2013 واللتين قتل وجرح فيهما آلاف من المتظاهرين السلميين؟ حينها، أحرقت السلطات المصرية عشرات من المصريين أحياء، كما فعلت داعش مع الطيار الأردني. أم هل يا ترى أن الذاكرة تلاشت حتى ننسى المجزرة الوحشية التي تمَّت بحق معتقلين اكتظت بهم سيارة ترحيلات سجن "أبو زعبل"، في أغسطس/آب 2013، وماتوا اختناقاً، بعد أن حبسوا أكثر من ست ساعات في درجة حرارة تقارب الأربعين مئوية؟
الغريب أن هذه الجرائم، وغيرها كثير، مما لا يتسع المجال لتعداده هنا، ارتكبت في بلد يطالب زعيم الانقلاب فيه، بإعادة النظر في "النصوص الدينية" التي تفضي إلى التطرف، كما يقول، في حين أن نظامه نفسه، يسوغ جرائمه بمبررات وفتاوى دينية! وتكفي الإشارة، هنا، إلى فتاوى أطلقها "فقهاء النظام" في مصر، قبل أيام، تجاوباً مع خطاب التفويض الثاني لـ"محاربة الإرهاب"، والذي أطلقه عبد الفتاح السيسي. فهذا علي جمعة، مفتي مصر الأسبق، يفتي بوجوب قتال جماعة الإخوان المسلمين، قائلاً إن "المسلمين مأمورون بقتال هؤلاء الإرهابيين، لأن عقولهم مليئة بالظلام والعناد. لذلك، فقتالهم واجب". مضيفاً أن "الإخوان مجرمون وقوم سوء، لأنهم حتى لو لم يقتلوا جنودنا، رضوا بهذا القتل، واعتبروه انتصارا، وعليهم أن يراجعوا أنفسهم قبل الموت والفوت". أما الشيخ أحمد كريمة، أُستاذ الشريعة في جامعة الأزهر، فقد طالب بحرمان كل مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين من السلع المدعومة التي توزعها الحكومة على المواطنين، ومن التعليم والعلاج المجاني، خطوة أولى قبل سحب الجنسية المصرية منهم.
على الضفة الأخرى من المعادلة، لم يتورع النظام السوري الذي يزعم أنه يحارب الإرهاب، عن استخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه في صيف 2013، موقعاً مئات القتلى والمصابين في صفوفهم. ولا يزال النظام نفسه، إلى اليوم، يستخدم الغازات السامة ضد شعبه، فضلاً عن دكهم بالطائرات الحربية والمدفعية الثقيلة، في حين تسانده إيران وحزب الله في ذلك، ويبررون له بأنه يتصدى للمؤامرة التي تستهدف "ممانعته"!
نعم، أفعال داعش إجرامية، لا مراء، غير أنها ليست بدعاً من الزمن في ذلك. أيضاً، محاربة فكر داعش المتطرف، وهزيمته، لا يمكن أن يتم من دون تجفيف مستنقعات اعتياشه. وأولى مصادر ذلك التطرف الأنظمة القمعية التي توفر له ذريعة الوجود، فضلاً عن العبث الغربي والإسرائيلي والإيراني، وعدوانهم على المنطقة. وإذا كان استخدام داعش الدين مشوهاً، فإن أنظمة كثيرة لا تقل تشويهاً للدين من داعش.