أضحى السودان في قبضة المانحين، بعد أن أعلن رئيس الوزراء الجديد عبد الله حمدوك، أن بلاده تحتاج إلى مساعدات أجنبية بقيمة 10 مليارات دولار لإعادة بناء الاقتصاد، فيما يتزايد التوجس لدى الكثير من السودانيين، بدخول الأموال السعودية والإماراتية وكذلك صندوق النقد الدولي لفرض أجندتها على البلد، الذي يتمتع بثروات كبيرة غير مستغلة، بينما ارتفعت آمال الشعب في وضع استراتيجية جديدة للنهوض، عقب تولي حكومة انتقالية مقاليد البلاد.
ويشهد السودان 10 أزمات، كان أغلبها المحرك الرئيسي في اندلاع الاحتجاجات الشعبية الساخطة منذ عدة شهور، والتي أطاحت الرئيس السابق عمر البشير في إبريل/نيسان الماضي بعد نحو خمسة أشهر من التظاهرات.
وارتفعت طموحات السودانيين خلال الأيام الأخيرة بالدخول في منحى جديد، ربما يتحقق من خلاله واقع اقتصادي أفضل، ليؤكد حمدوك عقب أدائه القسم قبل بضعة أيام، أهمية الفترة الانتقالية لتحسين الأوضاع المعيشية وإصلاح الخدمة المدنية وبناء اقتصاد وطني يقوم على الإنتاج وليس على الهبات والمعونات للنهوض بالبلد، بجانب محاربة الفساد وبناء دولة القانون والشفافية والعدل.
لكن لم تمض سوى أيام على هذه التصريحات، حتى خرج رئيس الوزراء الجديد، ليعلن أن السودان يحتاج إلى 10 مليارات دولار مساعدات أجنبية، منها ما يصل إلى ملياري دولار كاحتياطي من النقد في البنك المركزي للمساعدة في إيقاف تدهور سعر صرف الجنيه خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، أما الثمانية مليارات دولار الأخرى خلال العامين المقبلين لتغطية الواردات وللمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد.
ويرى خبراء اقتصاد أن السودان بحاجة إلى أجندة حقيقية لاستغلال موارده بالشكل الأمثل، وتحقيق تنمية صناعية وزراعية، مشيرين إلى أن البلد يعاني من الفساد والديون، ما يستدعي طرح برنامج حقيقي لإحداث تغيير في الدرجة الأولى قبل الاعتماد على المساعدات التي توجه للإنفاق على الواردات بضعة أشهر بينما تبقى المشاكل قائمة دون حلول.
وبعد فترة قصيرة من إطاحة البشير، قدمت الإمارات والسعودية مساعدات بقيمة ثلاثة مليارات دولار، في شكل وديعة بقيمة 500 مليون دولار في البنك المركزي وكذلك في صورة وقود وقمح وأدوية، إلا أن العديد من الأزمات ما تزال قائمة، لاسيما شح الوقود والخبز والسيولة النقدية وانقطاع الكهرباء، التي تتجدد بين الحين والآخر خلال العامين الأخيرين، بجانب أزمات دائمة مثل ارتفاع معدلات البطالة، والفقر، والفساد، والديون الخارجية، وتباطؤ معدلات النمو، وتراجع تحويلات المغتربين بالخارج، ما يشكل 10 تحديات كبيرة أمام الحكومة الانتقالية.
ارتفاع التكاليف وأزمات خبز ووقود وكهرباء
يعانى السودانيون من ارتفاع كبير في تكاليف المعيشة، حيث أشارت إحصاءات محلية إلى أن نسبة الزيادة في العديد من السلع الأساسية تجاوزت 200 في المائة في العامين الأخيرين مع ندرة في بعض السلع.
ووفق تقرير حديث صادر عن الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس، فإن السودان يستورد حوالى 4 آلاف سلعة من دول العالم، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير مع تهاوي قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية.
وارتفعت معدلات التضخم 52.5 في المائة في يوليو/تموز الماضي، مقارنة بنحو 47.78 في المائة في يونيو/حزيران، حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، بينما كانت 44.95 في المائة في مايو/ أيار.
كما تجددت أزمة الخبز خلال الأيام الماضية، لتمتد صفوف المواطنين أمام المخابز في العديد من المناطق لا سيما العاصمة الخرطوم، الأمر الذي أرجعه مسؤول إلى نقص الوقود الذي أدى إلى صعوبات في توزيع الدقيق على المخابز.
وتشكو كذلك قطاعات واسعة في السودان (سكنية وتجارية وصناعية) من استمرار الانقطاعات المتكررة في الإمداد الكهربائي، بسبب أزمة الوقود ونقص النقد الأجنبي، ما تسبب في تراجع الإنتاج مقابل ارتفاع كبير للاستهلاك.
أزمة سيولة
يواجه السودان أزمة سيولة منذ أكثر من عام ونصف، تسببت في اهتزاز ثقة العملاء في القطاع المصرفي، وزادت معدلات السحب مع قلة الإيداع مما فاقم من حجمها وبروز ظاهرة "تجارة الشيكات".
وفي محاولة لحل الأزمة بدأ البنك المركزي في الأشهر الماضية طرح فئات كبيرة من العملة بقيمة (100 و200 و500) جنيه، إلا ان المشكلة لا تزال متفاقمة.
واتخذت الحكومة السابقة في عهد البشير، عدة سياسات لتوفير السيولة بالبنوك من بينها فرض عقوبات على بنوك وتغذية الصرافة مباشرة من البنك المركزي، إلا أن زيادة السحب وعدم ثقة المواطنين حدت من عودة الأمور إلى طبيعتها.
ويقلل الخبير الاقتصادي عبد الله الرمادي، من جدوى ضخ وطباعة الفئات الكبيرة في حل مشكلة شح السيولة، مشيراً إلى أن المشكلة أعمق وتحتاج إلى حلول حقيقية وليس مجرد طبع فئات نقدية كبيرة.
ويوضح الرمادي لـ"العربي الجديد" أن قرار حجب السيولة عن المودعين في فترات سابقة، جاء لأسباب واهية، لا علاقة لها بالاقتصاد، مشيراً إلى أن الحكومة لا تستطيع حل الأزمة إن نظرت إليها بمعزل عن مجمل المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، وعلى رأسها ارتفاع التضخم وتراجع قيمة الجنيه.
وتقلبت السياسات المنظمة للبنك المركزي بعد فشله في التحكم في أسعار الصرف أو تحقيق احتياطي نقدي لمقابلة ارتفاع أسعار الدولار في السوق الموازية.
ويقول الخبير المصرفي عصام الزين لـ"العربي الجديد" إن الفترة المقبلة تتطلب إصلاحاً يبدأ من البنك المركزي بأن يكون جهازاً يعمل على تنفيذ سياسة نقدية واقعية، مشيراً إلى ضرورة طرح عملة جديدة، خلال الفترة المقبلة لإعادة الكتلة النقدية إلى المصارف على أن يتزامن ذلك مع طرح منتجات مصرفية لجذب المدخرات ورؤوس الأموال.
ويلفت إلى أهمية الحد من المضاربات في الدولار بالسوق الموازية (السوداء) للحفاظ على قيمة المدخرات من العملة المحلية من التآكل أو إعادة سحبها من البنوك من جديد بجانب تفعيل آليات الدفع الإلكتروني للحد من استخدام السيولة عبر ربط الدعم الحكومي الموجه للسلع الاستهلاكية، لكي يتم استخدام البطاقة الإلكترونية وسداد الرسوم الحكومية للسلع الأساسية الكهرباء والوقود والخبز.
وفقد الجنيه السوداني حوالى 70 في المائة من قيمته منذ نهاية 2018 في السوق السوداء. وخفض السودان قيمة الجنيه عدة مرات، لكنه فشل في منعه من الانهيار. ويبلغ سعر الدولار في الوقت الحالي 65 جنيهاً في السوق السوداء مقابل السعر الرسمي البالغ 45 جنيهاً.
بطالة وفقر
يعاني السودان من نسبة بطالة مرتفعة تصل وفق البيانات الرسمية إلى 19 في المائة بين عموم المواطنين، لكنها تقفز إلى نحو 34 في المائة بين الشباب و25 بالمائة بين حملة الشهادات الجامعية.
ويقول المحلل المالي فياض حمزة، إن سياسات الحكومة السابقة حجمت عمل القطاع الخاص وجعلته أسيراً لها، مشيراً إلى ضرورة تشجيع الاستثمار وتخفيض الضرائب وتسهيل شروط التمويل لتنشيط العمل الخاص وزيادة فرص التشغيل.
ويرى أن على الحكومة الانتقالية مسؤولية كبرى، تزيد من فرص توليد العمل في القطاع العام والخاص، وتشجيع الاستثمار بمشروعات ذات عمالة كثيفة ومراجعة الأجور لتشجيع السودانيين على العمل في مهن مرفوضة.
وتتضارب الإحصاءات الحكومية والدولية حول نسبة الفقر في السودان، فبينما يقول تقرير للأمم المتحدة إن 46.5 في المائة من سكان السودان يعيشون دون خط الفقر الوطني، و52.4 في المائة منهم في فقر متعدد الأبعاد، تقول دراسة حكومية أجريت عام 2017، إن الفقر تراجع إلى 28 في المائة، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء.
تباطؤ النمو
وكان معدل النمو الاقتصادي قد تباطأ إلى 3.5 في المائة في 2017 مقارنة مع 4 بالمائة في 2016 و5.3 في المائة خلال 2015، بينما استهدفت ميزانية العام المالي 2018 تحقيق معدل نمو في حدود 4 في المائة.
وكان البرلمان السوداني المنحل قد أجاز موازنة العام الجاري 2019 في 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث استهدفت تحقيق معدل نمو بنسبة 5.1 في المائة، متوقعة تحقيق إيرادات ومنح بنحو 162.8 مليار جنيه سوادني بزيادة تبلغ نسبتها 39 بالمائة عن 2018.
ويقول المستشار الاقتصادي السابق لمجلس الوزراء، هيثم فتحي، إن البلاد في حاجة ماسة لتغيير الطريقة التي تدار بها، وخلق حزمة متكاملة من السياسات المالية والاقتصادية المنحازة للإنتاج والصادرات، والتي تكبح النزعة المتزايدة للاستهلاك غير الضروري.
ويشير فتحي، إلى أهمية رفع نسبة النمو الاقتصادي، وتخفيض نسبة عجز الميزانية، والتحكم في التضخم باعتماد إجراءات صارمة ومستمرة وثابتة وليست ظرفية، وخفض الإنفاق الحكومي وربط الإنفاق بالنتائج، ومحاربة الفقر والبطالة، عبر تبني سياسات اجتماعية تستهدف الفقراء والطبقة الوسطى لتفادي الاحتجاجات في حالة اندلاع الأزمات.
وتراجع إنتاج السودان النفطي بعد انفصال جنوب السودان في 2011 من 450 ألف برميل إلى ما دون 100 ألف، ما جعل الحكومة السودانية تلجأ لاستيراد أكثر من 60% من المواد البترولية لتلبية حاجات البلاد.
تدني تحويلات المغتربين
تشير تقارير حديثة إلى أن السودان يعد الدولة الوحيدة في العالم، التي تشهد تدنياً في معدل تحويلات المغتربين بدرجة كبيرة، وقدر جهاز شؤون العاملين بالخارج مؤخراً التحويلات بحوالي 6 مليارات دولار سنوياً، ولكنه يرى أن مدخرات وممتلكات المغتربين ضعفا الستة مليارات.
وبحسب خبراء اقتصاد فإن سياسة فرض ضرائب على تحويلات المغتربين، أكبر عقبة في جذب المدخرات، ولفتوا إلى أن ضرائب المغتربين متقلبة مما انعكس في تقلص التحويلات عن طريق القنوات الرسمية ولجوئهم إلى السوق الموازية بالرغم من المحفزات التي أعلنتها الحكومة السابقة.
ديون وفساد
أظهرت بيانات رسمية، أن إجمالي الدين الخارجي للسودان يبلغ نحو 58 مليار دولار، النسبة الكبرى منه فوائد وغرامات تأخير. وأوضحت البيانات الواردة في تقرير مشترك بين البنك الدولي ووزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، صادرة في مايو/أيار الماضي، أن أصل الدين الخارجي يراوح بين 17 و18 مليار دولار، والمتبقي من إجمالي الدين بنسبة 85 في المائة عبارة عن فوائد وجزاءات، بدأت في التراكم منذ عام 1958.
ووفقاً للتقرير، فإن قائمة دائني السودان تضم مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة 15 في المائة ونادي باريس 37 في المائة، و36 في المائة لأطراف أخرى، بجانب 14 في المائة للقطاع الخاص.
كما أدرج السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب وتراجع ترتيبه في المؤشرات العالمية بسبب استشراء الفساد، ما أفقده العديد من الفرص، بينها إعفاء الديون التي استفادت منها معظم الدول النامية في أفريقيا ما عدا السودان.
يقول الخبير الاقتصادي محمد الجاك، إن الحلول المتوقعة لحل مشكلة الديون الخارجية، تكمن في اعتماد الحكومة الجديدة سياسة مرنة وشفافة مع المجتمع الدولي خاصة صندوق النقد.
ووفق تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لرويترز، يوم السبت الماضي، فإنه بدأ محادثات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمناقشة إعادة هيكلة ديون السودان وتواصل مع الدول الصديقة وهيئات التمويل بشأن المساعدات، مشيراً أن حجم ديون السودان حوالى 56 مليار دولار. وأضاف "لا بد من الوصول أولاً لتفاهمات حول فوائد الدين السيادي والتي تبلغ حوالي ثلاثة مليارات دولار لأن النظام السابق كان يعجز عن السداد".
وتابع "الوصول لهذه التفاهمات سيفتح الطريق لاستفادة السودان من برامج الإعفاءات من الديون وجدولة الديون والحصول على المنح والقروض". لكنه أردف "لن يكون هناك فرض روشتة الصندوق والبنك الدولي على السودان"، بينما يشير محللون إلى أن هناك بالفعل مخاوف من فرض أجندة على السودان تتمثل في إعادة النظر بالدعم الحكومي للخبز والوقود والكهرباء والدواء.
لكن حمدوك قال إن "رفع الدعم قضية محورية في السودان وسنحاول الاستفادة من تجارب بعض الدول وقضية رفع الدعم هي جزء من الاقتصاد السياسي القرار حوله سنتخذه بعد نقاشات عميقة مع شعبنا والشعب هو من سيحدد القرار في هذا الملف".