11 نوفمبر 2023
السودان على طريق زيمبابوي؟
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
بين السودان وزيمبابوي تشابه وتوازٍ في التجربة والتاريخ: البدايات المبشّرة والنهايات المؤسفة. حقق السودان استقلاله في عام 1956، سلمياً، وكان الانتقال سلساً وقانونياً. وحين سقط النظام الديمقراطي في يد العسكر بعد الاستقلال بأقل من عامين، لم تكن الكارثة مدمرةً على الدولة ومؤسساتها، لأن العسكر لم يفعلوا بها ما فعلته الانقلابات اللاحقة من تدميرٍ لبنيتها القانونية والمؤسسية. فقد سلمت البيروقراطية، وبقي احترام القانون واستقلال القضاء، بل وبنية الجيش نفسه، حيث لم يقع فريسة صغار الضباط، وما يتبع ذلك من تعدٍّ على التراتبية. ولعل أبرز دليل على ذلك أن الشرطة لم تكن قادرةً، عندما قامت الثورة الشعبية التي سقط معها النظام، على فض المظاهرات بدون إذنٍ من قاضٍ مدني. وأعقب سقوط النظام العسكري في عام 1964 انتقال سلس للسلطة، وعادت الديمقراطية كاملة. وتكرّر الأمر نفسه عام 1985.
كانت زيمبابوي أيضاً نموذجية في استقلالها عام 1980، على الرغم من الصراع الدموي الطويل الذي سبقه، فقد تم الانتقال السلس من حكم الأقلية العنصرية، فيما كانت تُعرف روديسيا، إلى نظام ديمقراطي مستقر نسبياً، وعبر انتخابات حرّةٍ ونزيهة سبقت الاستقلال ومهّدت له، تماماً كما كان الحال في السودان. وأهم من ذلك تمت تسوية قضية الأقلية البيضاء في الدولة الجديدة، ولم تشهد البلاد عملياتٍ انتقاميةً أو تهجيرا جماعيا. وكان هذا أحد الأسباب التي جعلت زيمبابوي تحتفظ باقتصادٍ كان من بين الأقوى في القارة الأفريقية.
ولكن الأحوال سرعان ما أخذت تتدهور في البلدين: حروب أهلية، نزيف اقتصادي، انهيار
الديمقراطية وتكريس نظام استبدادي زاد الأمور سوءاً. وبالنسبة لزيمبابوي، انتهت هذه المأساة في وقت سابق الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وبطريقةٍ تذكّر بـ "الحل السوداني": أجبر الجيش الرئيس روبرت موغابي على ترك السلطة، كما فعل المشير سوار الذهب مع الرئيس جعفر النميري عام 1985 (ومجموعة من الضباط في 1964)، وأشرف على تسليم السلطة للمدنيين. وكما حدث في الثورات السودانية والعربية، استبشرت الجماهير بهذا الانتقال السلس والسهل من نظامٍ أدّت سياساته إلى إفقار البلاد وهجرة الملايين، وأصبحت تنظر إلى المستقبل بأمل.
كما يحدث دائماً في مثل هذه الأوضاع، يرتكب الحاكم المستبد بالأمر، في نهايات عهده، أخطاء يكون فيها حتفُه. ذلك أن طول المكوث في الحكم، وكثرة المنافقين حول الزعيم، تدفعه إلى استسهال الاستزادة من السلطة، وإهمال نصح الناصحين المشفقين، وإخراج الجماهير (وحتى شركائه في السلطة) من حسابه. وقد كانت القشّة التي قصمت ظهر بعير موغابي قراره استخلاف زوجته مكانه، ما استفزّ قادة الحزب والجيش، فقالوا: "كفاية"، مثلما قال أهل مصر، حين قرّر حسني مبارك أن يستخلف ابنه، معبراً في ذلك عن احتقاره حتى لمؤسسات الدولة القمعية التي كانت تبقيه في السلطة (الجيش، الأمن، الحزب الحاكم، قطاع كبير من النخبة المثقفة، إلخ).
ويبدو أن الأوضاع في السودان تتجه بسرعة في هذا الاتجاه، سوى أن النظام السوداني راكم الأخطاء القاتلة وأدمنها، حتى ظن أنه أمن عواقبها، ما شجعه على التمادي. فخلال السنوات الماضية، استشرى الفساد واشتهر إلى درجة التبجّح، في الوقت الذي أثقل الفقر كاهل عامة الشعب، وضاق عيشُهم. كذلك شهدت الفترة نفسها تهميش مؤسسات الدولة التي هي عصب السلطة، خصوصا الجيش والأجهزة الأمنية والحزب الحاكم وأنصار النظام الذي أصبح يعتمد، في أمنه، على مليشيات قبلية لها تاريخ معروف، وأصبح يقدّمها على الجيش. كذلك فإن قراراتٍ مهمةً تمس مستقبل البلاد وأمنها، مثل قرار مشاركة الجيش السوداني في حرب اليمن، أصبحت تتخذ من دون مشورة غالبية من يفترض فيهم أن يكونوا أهل الحل والعقد في البلاد، في ظل مسارعةٍ في رضا أطراف أجنبية.
وكانت ثالثة الأثافي ما بدر من الرئيس السوداني، عمر البشير، في أثناء زيارته روسيا في الثالث والعشرين من الشهر الماضي، حيث سبقتها ورافقتها تصريحاتٌ رئاسية حيرت حتى أنصار النظام، لتناقضها مع السياسات التي ظل يتبناها. فقد كان الرئيس قطع العلاقات مع إيران انصياعاً لضغوط السعودية والإمارات، وانخرط معهما في حرب اليمن، بل وجاهر بعدائه الإسلاميين، على الرغم من أنهم عماد حكمه، اسمياً على الأقل. ولكنه فجأة أدلى بتصريحاتٍ تتناقض مع حملة السعودية الأخيرة لشيطنة إيران، وخالفها أيضاً بالمجاهرة برأيه بأن بقاء الرئيس بشار الأسد في سورية ضروري للسلام هناك. لكن أكثر ما أثار الحيرة والعجب كانت دعوة الرئيس السوداني نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، إلى بسط الحماية على السودان الذي قال الرئيس إنه مهدّد من أميركا التي تريد أن تمزّقه، وهي دعوة شملت عروضاً بالسماح ببناء قواعد عسكرية روسية في البلاد.
وزاد من غرابة هذه التصريحات أن أميركا بدت كما لو كانت في حالة "هرولةٍ" لإصلاح
العلاقات مع السودان، كما ظهر عند رفع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، العقوبات التي فرضت على السودان عشرين سنة. وقبيل الزيارة، استقبلت الخرطوم مساعد وزير الخارجية الأميركي في زيارة نادرة لمسؤول أميركي رفيع يناقش طلب السودان رفع ما بقي من العقوبات. وطلب الحماية من أي بلد، واستجداء نظامه لبناء قواعد عسكرية في البلاد، لا يتناقض فقط مع كل إرث ما بعد الاستعمار في أفريقيا والعالم العربي، بل أيضا مع مواقف النظام التي بلغت حد التنطّع في معاداة النفوذ الأجنبي، والتصدّي لمقاومة حتى شبهته، وافتعال المعارك مع الدول الغربية، كما حدث عن غزو العراق أو الصومال، إلخ. ولا يزال النظام السوداني يُجاري رصفاءه العرب في اتهام كل من ينتقد ممارساته الخاطئة بأنه "عميل" لقوى أجنبية!
وقد أثارت موجة الغضب والاستغراب التي واجهت هذه التصريحات، المستغربة والمستهجنة، لدى أنصار النظام قبل خصومه، ردود فعل رسمية زاوجت بين الإنكار والتملص، ومحاولة تفسير ما لا يمكن تفسيره. وهذا إدراكٌ محمودٌ لفداحة الخطأ، وإن يكن بعد فوات الأوان، على الرغم من أن بعض أنصار النظام المتحمسين أكثر من اللازم لا يزالون يجتهدون في تقديم تبريراتٍ لا تحترم العقول، ولا تحترم كرامة الأوطان وعزّتها، كما حدث عندما صدرت دعواتٌ للتطبيع مع إسرائيل من بين وزراء النظام.
العظة والعبرة مما وقع في زيمبابوي كانت في الفرحة التي عمّت البلاد، وفاضت بها الشوارع، عندما أطيح الحاكم المتشبث بكرسيه بعد انتهاء الصلاحية، وبعد أن أصبح عبئاً على الوطن وأهله. وهو عين ما حدث في حالاتٍ مماثلة كثيرة، بينما نجد الزعماء الذين قادوا الإصلاح وتركوا الحكم قبل أن يتركهم، مثل سوار الذهب في السودان، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وزعماء كثر في أفريقيا التي أصبحت قدوة لغيرها في تداول الحكم سلمياً، لا يزالون محل الاحترام والإجلال من الكل. وما نأمله هو أن يتعظ العقلاء بمصير غيرهم، ويسارعوا بتنفيذ ما وعدوا به من إصلاح وحوار جدّي، قبل أن تصبح سياساتهم وأفعالهم (لا سياسات أميركا المزعومة) هي سبب تمزيق البلاد وانهيارها وتفكّكها.
كانت زيمبابوي أيضاً نموذجية في استقلالها عام 1980، على الرغم من الصراع الدموي الطويل الذي سبقه، فقد تم الانتقال السلس من حكم الأقلية العنصرية، فيما كانت تُعرف روديسيا، إلى نظام ديمقراطي مستقر نسبياً، وعبر انتخابات حرّةٍ ونزيهة سبقت الاستقلال ومهّدت له، تماماً كما كان الحال في السودان. وأهم من ذلك تمت تسوية قضية الأقلية البيضاء في الدولة الجديدة، ولم تشهد البلاد عملياتٍ انتقاميةً أو تهجيرا جماعيا. وكان هذا أحد الأسباب التي جعلت زيمبابوي تحتفظ باقتصادٍ كان من بين الأقوى في القارة الأفريقية.
ولكن الأحوال سرعان ما أخذت تتدهور في البلدين: حروب أهلية، نزيف اقتصادي، انهيار
كما يحدث دائماً في مثل هذه الأوضاع، يرتكب الحاكم المستبد بالأمر، في نهايات عهده، أخطاء يكون فيها حتفُه. ذلك أن طول المكوث في الحكم، وكثرة المنافقين حول الزعيم، تدفعه إلى استسهال الاستزادة من السلطة، وإهمال نصح الناصحين المشفقين، وإخراج الجماهير (وحتى شركائه في السلطة) من حسابه. وقد كانت القشّة التي قصمت ظهر بعير موغابي قراره استخلاف زوجته مكانه، ما استفزّ قادة الحزب والجيش، فقالوا: "كفاية"، مثلما قال أهل مصر، حين قرّر حسني مبارك أن يستخلف ابنه، معبراً في ذلك عن احتقاره حتى لمؤسسات الدولة القمعية التي كانت تبقيه في السلطة (الجيش، الأمن، الحزب الحاكم، قطاع كبير من النخبة المثقفة، إلخ).
ويبدو أن الأوضاع في السودان تتجه بسرعة في هذا الاتجاه، سوى أن النظام السوداني راكم الأخطاء القاتلة وأدمنها، حتى ظن أنه أمن عواقبها، ما شجعه على التمادي. فخلال السنوات الماضية، استشرى الفساد واشتهر إلى درجة التبجّح، في الوقت الذي أثقل الفقر كاهل عامة الشعب، وضاق عيشُهم. كذلك شهدت الفترة نفسها تهميش مؤسسات الدولة التي هي عصب السلطة، خصوصا الجيش والأجهزة الأمنية والحزب الحاكم وأنصار النظام الذي أصبح يعتمد، في أمنه، على مليشيات قبلية لها تاريخ معروف، وأصبح يقدّمها على الجيش. كذلك فإن قراراتٍ مهمةً تمس مستقبل البلاد وأمنها، مثل قرار مشاركة الجيش السوداني في حرب اليمن، أصبحت تتخذ من دون مشورة غالبية من يفترض فيهم أن يكونوا أهل الحل والعقد في البلاد، في ظل مسارعةٍ في رضا أطراف أجنبية.
وكانت ثالثة الأثافي ما بدر من الرئيس السوداني، عمر البشير، في أثناء زيارته روسيا في الثالث والعشرين من الشهر الماضي، حيث سبقتها ورافقتها تصريحاتٌ رئاسية حيرت حتى أنصار النظام، لتناقضها مع السياسات التي ظل يتبناها. فقد كان الرئيس قطع العلاقات مع إيران انصياعاً لضغوط السعودية والإمارات، وانخرط معهما في حرب اليمن، بل وجاهر بعدائه الإسلاميين، على الرغم من أنهم عماد حكمه، اسمياً على الأقل. ولكنه فجأة أدلى بتصريحاتٍ تتناقض مع حملة السعودية الأخيرة لشيطنة إيران، وخالفها أيضاً بالمجاهرة برأيه بأن بقاء الرئيس بشار الأسد في سورية ضروري للسلام هناك. لكن أكثر ما أثار الحيرة والعجب كانت دعوة الرئيس السوداني نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، إلى بسط الحماية على السودان الذي قال الرئيس إنه مهدّد من أميركا التي تريد أن تمزّقه، وهي دعوة شملت عروضاً بالسماح ببناء قواعد عسكرية روسية في البلاد.
وزاد من غرابة هذه التصريحات أن أميركا بدت كما لو كانت في حالة "هرولةٍ" لإصلاح
وقد أثارت موجة الغضب والاستغراب التي واجهت هذه التصريحات، المستغربة والمستهجنة، لدى أنصار النظام قبل خصومه، ردود فعل رسمية زاوجت بين الإنكار والتملص، ومحاولة تفسير ما لا يمكن تفسيره. وهذا إدراكٌ محمودٌ لفداحة الخطأ، وإن يكن بعد فوات الأوان، على الرغم من أن بعض أنصار النظام المتحمسين أكثر من اللازم لا يزالون يجتهدون في تقديم تبريراتٍ لا تحترم العقول، ولا تحترم كرامة الأوطان وعزّتها، كما حدث عندما صدرت دعواتٌ للتطبيع مع إسرائيل من بين وزراء النظام.
العظة والعبرة مما وقع في زيمبابوي كانت في الفرحة التي عمّت البلاد، وفاضت بها الشوارع، عندما أطيح الحاكم المتشبث بكرسيه بعد انتهاء الصلاحية، وبعد أن أصبح عبئاً على الوطن وأهله. وهو عين ما حدث في حالاتٍ مماثلة كثيرة، بينما نجد الزعماء الذين قادوا الإصلاح وتركوا الحكم قبل أن يتركهم، مثل سوار الذهب في السودان، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وزعماء كثر في أفريقيا التي أصبحت قدوة لغيرها في تداول الحكم سلمياً، لا يزالون محل الاحترام والإجلال من الكل. وما نأمله هو أن يتعظ العقلاء بمصير غيرهم، ويسارعوا بتنفيذ ما وعدوا به من إصلاح وحوار جدّي، قبل أن تصبح سياساتهم وأفعالهم (لا سياسات أميركا المزعومة) هي سبب تمزيق البلاد وانهيارها وتفكّكها.
دلالات
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
عبد الوهاب الأفندي
مقالات أخرى
04 نوفمبر 2023
14 أكتوبر 2023
09 سبتمبر 2023