السودان ... صحافة مستهدفة وفساد كثير
عقب انقلاب حركة الإخوان المسلمين العسكري في السودان عام 1989، كنت أدرّس طلابي في قسم الإعلام في كلية الخرطوم التطبيقية مادة تاريخ الصحافة العالمية. وقتها بالتحديد، كان الموضوع عن الصحافة البريطانية. استدعاني عميد الكلية، وسألني: "يقولون إن محاضراتك ساخنة؟". تعجبت من السؤال، إذ كيف يكون تاريخ الصحافة ساخناً؟ ثم دخل في الموضوع "يشتكي الطلاب خوفاً من أن في محاضراتك طابعاً سياسياً، وأنت تعرف أن شقيقة الرئيس عمر البشير طالبة عندك". أدركت مغزى السؤال، وقلت له ضاحكاً إنني أدرسهم عن تاريخ الصحافة البريطانية، ولا علاقة لما أتحدث عنه بالسودان. أحاضر فيهم عن منعطفات حرجة عانت منها الصحافة في تاريخ بريطانيا، جرّاء رقابة صارمة فرضت عليها، وأقول لهم إن الصحافة لا تستقيم من دون حرية، ولا تستقيم في عملها في غياب الديموقراطية. ولكي يستوعبوا موضوع المحاضرة، كنت مثلاً أشير إلى ما عايشه الطلاب في الفترة التي سبقت انقلاب البشير، حينما كانت تجربة التعددية الحزبية، وكان وجود أكثر من 60 صحيفة لافتاً، وكيف اختلف الوضع بعد الانقلاب العسكري الذي نظمته الحركة الإسلامية، وأصبح في كل السودان صحيفتان فقط، استوعبت كوادر الحركة الإسلامية. قلت لهم إن هذا هو الفرق، فالانقلاب، منذ لحظته الأولى، يحمل بذرة الشمولية، ولكي يسيطر على الأمور، يحدد أنبوبين لتوصيل ما يريده للناس، ويعرّفهم بما يريد، ولا يسمح بغير ما يريد. وكانت تلك البداية المبكرة لما جرى لاحقاً، وصاحب الصحافة السودانية، إلى يومنا هذا.
تقودني هذه المقدمة إلى ما أود مناقشته عن حال الصحافة السودانية اليوم، وهو بلا مثيل. فالسودان يحتل اليوم مرتبة متأخرة جداً في مؤشر حرية الصحافة في العالم، وتعاني صحافته ويعاني صحافيوه لأصناف من رقابة وملاحقة وإيقاف، ويتعرضون إلى استدعاءات متكررة من الأجهزة الأمنية، وإلى إيقاف مقالاتهم، لأسباب تحددها الأجهزة الأمنية التي باتت تقوم مقام رؤساء التحرير في الصحف. وفي شهر مايو/أيار الماضي وحده، جرت استدعاءات متكررة لرؤساء تحرير وصحافيين، وتعليق صدور أكثر من صحيفة، عدا عن مثول صحافيين بشكل منتظم أمام مسؤولين في جهاز الأمن السوداني، للإجابة عن أسئلة الأجهزة بشأن محتوى مقالاتهم. ولعل أشهرهم الصحافي فيصل محمد صالح الذي يعتبر "زبوناً دائماً" لدى الأجهزة عقب كل مقال يكتبه، في حالة فريدة، ربما لا نجدها إلا في السودان. وفي حالة فريدة أخرى، جرى استدعاء خمسة رؤساء تحرير، للمثول أمام محكمة الصحافة والمطبوعات في مدينة ود مدني، لمواجهة اتهامات في قضايا نشر. كما تعرضت صحف السوداني والجريدة والأهرام اليوم والوطن والحرة لوقف مؤقت أياماً، أو لمنع نشر موضوعات معينة. وتوجت حملة التضييق هذه بتعليق جهاز الأمن السوداني صدور صحيفة الصيحة، مما جعل إناء الصبر يفيض، فنظم نحو 50 صحافياً في أحد شوارع الخرطوم اعتصاماً احتجاجياً على تدخل جهاز الأمن المستمر، ورفعوا لافتاتٍ كتب عليها شعارات "صحافة حرة أو لا صحافة" و"لا لتكميم الأفواه" و "لا للإذلال".
وتنشغل هذه السطور بما تسميه الحكومة السودانية رسمياً "هامش" حرية صحفية، تماماً كما توفر حرية الكلام، وليس حرية التعبير. بمعنى أدق، تتنوع الصحف التي تصدر، الآن، في السودان بين صحف تصدرها الحكومة، ونعني حزب المؤتمر الوطني (الحاكم)، وهو الاسم الحركي للإخوان المسلمين "في سياق ما بعد استيلائهم على الحكم بالانقلاب العسكري"، وبتمويل منها مستتر، تحت مسمى فرد من الأفراد أو شركات أو صحفٍ يمولها جهاز الأمن. وتزدحم هذه الصحف بمفارقات، إذ تضم طيفاً من الصحافيين والكتاب الذين يمارسون حق الكلام، من دون تجاوزه إلى حق التعبير، وهو خط أحمر يفضي إلى التوبيخ والرقابة القبلية، أي تدخل الرقيب المقيم في الصحيفة، ورفع موضوعات ومقالاتٍ أو أخبار ومنعها. وهو ما يحدث في اللحظة الأخيرة، ويتم بقصد إرهاق الصحيفة وملاكها مالياً، كما في حالة صحيفة الأيام العتيدة التي يملكها شيخ الصحافة في السودان، محجوب محمد صالح، والتي لا تدخل ضمن التصنيفات السابقة. لهذا، عانى مالكها، كما الصحيفة نفسها من الرقابة التي قصد منها إخراجها من السوق تماماً.
كل ما تتعرض له الصحف اليوم في السودان، يتعلق، في مجمله، بخطوط حمراء، تحددها الأجهزة الأمنية التي تحظر تناول أي موضوعات تتعلق بالجيش، وعلى ذلك، لا يسمح بالحديث عما يجري حقيقة في إقليم دارفور، أو جنوب كردفان والنيل الأزرق، أو كما حدث، أخيراً، بمنع الحديث عن الفساد الكثير. وهذه حالة تشمل قيادات سياسية، كما جرى للصادق المهدي الذي لا يزال معتقلاً، وربما يواجه المحاكمة، لأنه فقط تناول الجيش وما يجري في إقليم دارفور. وانضم إليه، قبل أيام، رئيس حزب المؤتمر السوداني، إبراهيم الشيخ، بسبب الجيش ودارفور أيضاً. السبب الثاني لما تتعرض له الصحف هو الفساد في الأجهزة، وأبطاله قيادات سياسية، وهم، بالضرورة، وزراء وقيادات في الحزب الحاكم. فقد طفح الفساد وفاحت روائح منه، جعلت السودانيين يتهكمون "نعجب مما نسمع"، في تلاعب بتعبير شهير رفعه الإسلاميون أيام مشروع "الدولة الحضارية" الذي هوى "نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع". وهو ما لم يحدث، ولم يعد في مقدور المواطن السوداني، لا الأكل أو اللبس كما يريد. وفي الواقع، إنها حالة تحول نوعي، خرج فيها الفساد من حالة المسكوت عنه، ونوادر الشارع، وتحوّل إلى مادة دسمة، لكتب صدرت، غالباً، عن الإسلاميين الذين غادروا الصفوف، أو حاملي راية ما يسمونه تصحيح الحركة الإسلامية في السودان. الجديد أنه مع تعهدات الرئيس عمر البشير بالشفافية والحريات، فُتح باب الفساد، فانداحت دوائر الروائح النتنة، تدهش السودانيين، ليس من حيث جدّتها، ولكن، من حيث ظهور الأبطال الحقيقيين وراء قصص الفساد، من وزراء وولاة ومحافظين، وضبطهم بالجرم المشهود والموثق. وقد انتقلت تسريبات الوثائق التي ملأت الصحف، على غير العادة، إلى التلفزيون الرسمي، أبطالها جهاز الأمن الذي يحارب باسم المجموعات المتحاربة داخل الحكومة. وأبطالها وزراء يدفعون التهمة بتهمة أخرى، في تسريبات وتهم ثقيلة، ترمى على الغرماء من داخل الحكومة نفسها. أما معظم المعلومات الصحفية عن الفساد، وللغرابة، فمصدرها ديوان المراجع العام، وهو جهة رسمية، يعين رئيسها البشير شخصياً، وتتبع له. إذن، هي حالة غريبة من الفوضى التي تعكس انسداد الأفق أمام الحزب الحاكم وأجهزته، وإذا أضفنا إلى المشهد حالة التردي الاقتصادي، وانهيار العملة السودانية أمام الدولار، نجد أن حالة السودان، اليوم، تجعل من البيان الأول الذي تلاه البشير يبرر به انقلابه، باسم الحركة الإسلامية عام 1989، مجرد مزحة غبية وسمجة.
اللافت أن محصلة الفساد لم تكن محاسبة من وردت أسماؤهم من وزراء ومسؤولين كبار في الحزب والدولة، وإنما محاسبة الصحف والصحافيين، فاقتحمت الأجهزة الأمنية بعض مقرات الصحف، واعتقلت الصحافيين من داخل صحفهم، وأخذت ما توصلت إليه من وثائق سربت للصحف. وانتهت، في بعضها، إلى اعتقال 13 صحافياً من صحيفة واحدة "الصيحة"، ووجهت إليهم تهماً، بموجب المادة 55 من القانون الجنائي، بحيازة وثائق سرية.
وامتدت يد أجهزة الأمن والدولة، لتطال المواقع الإلكترونية، والتي اتهمت بأنها تروج الشائعات "المغرضة"، وجرى إغلاق مواقع، لكنها لم تغير شيئاً من الصورة السيئة، وقادت إلى مزيد من السخرية والتهكم، وسيل من النقد والمقالات والرسوم الساخرة التي ملأت الفضاء الإلكتروني.
وتوج وزير الإعلام السوداني، أحمد بلال، المشهد متوعداً الصحف بمزيد من الإغلاق لكل صحيفة، تتصدى لنشر ما تعتبرها وثائق عن الفساد، لكنه لم يتحدث مطلقاً عن توجيه اتهام لأي من الشخصيات التي شملتها الوثائق، وحسبت أدلة دامغة، على الأقل، بالقدر الذي ظهرت به. وربما كان السبب أن الوزير نفسه منهم، بحسب مداخلة صحافي من "الصيحة" معه في مقابلة تلفزيونية، في برنامج قناة النيل الأزرق الحكومية الشهير "حتى تكتمل الصورة"، حينما خاطبه قائلاً، واستناداً لوثائق المراجع العام "اسمك وارد بين مهدري ملايين الدولارات"، حينما كان وزيراً للصحة. إنها صورة كئيبة، ليس بالنسبة للحريات الصحفية، وإنما بالنسبة لمستقبل الحكم في السودان، وسماء الخرطوم الذي باتت تغطيه سحب سوداء هائلة من الفساد، فهل تمطر سماء الخرطوم، ومتى؟