10 ابريل 2019
السودان.. الحكومة والحركات نحو الهاوية
حصر الباحث في شؤون النزاعات، فريدريش جلاسل، نماذج التصعيد، في تسعة مستويات: التصلب في المواقف، النقاش والجدل العنيف، الأفعال بدلاً عن الكلمات، التحالفات، الإهانة وإلحاق الخزي، استراتيجية التهديدات، الضربات التخريبية المحدودة، تشتيت الخصم، ثم أخيراً مستوى "معاً نحو الهاوية"، وهو لصاحب القول الشهير "إنّ الطريق إلى التصعيد مرصوفة بفشل محاولات إصلاح ذات البين"؛ تصل فيه الأطراف إلى مرحلة المواجهة الشاملة، حيث لا أمل في العودة إلى الخلف، بحيث يصبح تدمير الذات مقبولاً، إذا كان ثمنه تدمير الخصم.
ووفقاً لمستوى جلاسل الأخير أيضاً، غير مستغربةٍ سياسة الشد والجذب بين أطراف التفاوض الثلاثة: الحكومة السودانية، والآلية الأفريقية رفيعة المستوى بقيادة ثامبو أمبيكي رئيس جنوب أفريقيا السابق، وقوى المعارضة والحركات المسلحة وقطاع الشمال. وبينما يضع الطرفان الأول والثاني الحكومة والوساطة الأفريقية يدهما في يد بعض، تتأجج قوى المعارضة المتمثلة في الأحزاب السياسية والحركات المسلحة غضباً من تغيّر موقف الإدارة الأميركية التي كانت فيما قبل تُحابي هذه الحركات، لكنها أعلنت، أخيراً، وقوفها مع الحوار الوطني، ووعدت الحكومة بالضغط على الحركات المسلحة وقوى المعارضة بالتوقيع على خارطة التفاوض.
هذا الموقف الذي أعلنه مكتب المبعوث الأميركي في السودان، فسّره محللون بأنّه ناتجٌ عن التأثير السالب للحركات المسلحة في المحيط الإقليمي، ومشاركتها في حرب دولة جنوب السودان وامتدادها إلى الجوار الأفريقي، ما يشكل خطراً على المصالح الأميركية في المنطقة. أما موقف الآلية الأفريقية رفيعة المستوى فقد تعرّض للنقد منذ البداية، بسبب استراتيجية تجزئة التفاوض التي انتهجتها بالاتفاق مع الحكومة بعقد اتفاقيات سلام منفردة. وربما يكون السبب هو التكوين المعقّد للحركات المسلحة، فهناك حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان قيادة منّي أركو مناوي، وحركة جيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد نور. ومن هذه الحركات كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان (قطاع الشمال)، قد شاركت في الحكم بناءً على اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا عام 2005.
توحدّت هذه الحركات شكلياً بالتوقيع على "وثيقة كاودا" التي أصدرتها الحركة الشعبية (قطاع الشمال)، الفصيل الأكبر في قوات الجبهة الثورية بقيادة مالك عقار، مع ثلاث حركات مسلحة أخرى لإعلان تشكيل الجبهة الثورية (تحالف كاودا) في جبال النوبة، وتم التوقيع عليها في نوفمبر/تشرين الثاني 2011. وجاء هدف هذه الحركات مُعلَناً في إسقاط النظام الحاكم بالقوة العسكرية المسلحة، وتأسيس دولة جديدة على أنقاضه، ما جعل خيار التغيير الذي انتهجته المعارضة السودانية يتبعه من الاتجاه الآخر تصعيد عسكري مباشر. عمل ذلك التصعيد على تشتيت تركيز الحكومة وقواتها بتوسيع ساحات المعارك، وفتح جبهاتٍ جديدة في استعراضٍ واضح للقوة العسكرية، واجهته الحكومة باستعراضٍ آخر، غرضه تطويق قوات الجبهة الثورية.
توحدّت الجبهة الثورية بعد انقسامات الجماعات المسلحة. وكان في وسع الحكومة السودانية التفاوض معها كتنظيم واحد، للوصول إلى حلٍّ شامل، لكنها انتهزت فرصة إصرار بعض الحركات على التفاوض معها منفردةً، فعملت على ذلك. ورأت أنّ هذا بإمكانه أن يحقق نتائج ووسيلة ضغط على الحركات، ويضمن تنازلاتها، غير أنّ التفاوض مع كل حركةٍ على حدة أضرّ بعملية السلام، والوصول إلى اتفاق سلام شامل. وأدى ذلك، كنتيجة حتمية، إلى تجزئة الحلول والنتائج، خصوصاً وأنّ هناك قضايا شائكة أمام أطراف التفاوض، لا يكفي الاعتماد فيها على عوامل الشخصية الكارزمية لأيٍّ من قياداتها.
لم يكن بالإمكان إحلال السلام في السودان إلّا بتوقف الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، والمجتمع الدولي، والقوى السياسية السودانية، عن دعم الدخول في مفاوضات جزئية لوقف الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وكان أجدى أن تتحول منابر المفاوضات المختلفة في الدوحة وأديس أبابا، والتي تقودها الوساطتان القطرية والإفريقية، إلى منابر للتفاوض حول قيام عملية سلام شامل، من دون إقصاء لأي طرف على حساب الآخر، ومن دون بذل ترضياتٍ واستقطاب حركاتٍ على حساب أخرى، مهما اختلفت الرؤى في الوصول إلى حلول شاملة.
يؤكد الاتجاه العام الذي استحوذ على معظم التحليلات في هذا الشأن أنّ تجزئة التفاوض هي التي تقود إلى ارتفاع سقف المظالم والشكاوى من مشكلات التهميش، وهو ما يؤجج فتيل الصراع والحرب التي كلما أطفئت شعلتها استولدت ألف شعلة. وتستمر وفقاً لذلك دوامة المفاوضات اللانهائية، وتصدير حالة الصراع وعدم الاستقرار إلى مناطق أخرى، لتتسع رقعة الاحتراب، ويعيش سكان هذه المناطق في دوراتٍ متصلةٍ من الاحتراب والهدنة الشكلية.
الآن، تتضح أمامنا مقولة جنكيز خان (الملك العالمي): "أنا على استعداد للتضحية بنصف شعب المغول، لكي يستقيم النصف الثاني". وهكذا تفعل الحكومة السودانية والحركات المسلحة، فالحكومة لن يثنيها شيء من التضحية بشعب المنطقتين، ما دامت ترى الاستقامة في التمكين وتثبيت قواعد الحكم إلى أكثر من ربع قرن. والشيء نفسه تفعله الحركات المسلحة، فمنذ بدايات تكوينها، استعدت لهذا التحدّي، وكان الضحايا هم شعب جبال النوبة والنيل الأزرق، وأهل دارفور، ليتسنى لها كسب ما تبقى من السودان.
وبهذه الضربة المزدوجة، تكون الحصيلة محو نصف الشعب السوداني، لتكون نسخة الوطن الجديدة بعد انفصال جنوب السودان، هي ما نراه ماثلاً أمامنا.
ووفقاً لمستوى جلاسل الأخير أيضاً، غير مستغربةٍ سياسة الشد والجذب بين أطراف التفاوض الثلاثة: الحكومة السودانية، والآلية الأفريقية رفيعة المستوى بقيادة ثامبو أمبيكي رئيس جنوب أفريقيا السابق، وقوى المعارضة والحركات المسلحة وقطاع الشمال. وبينما يضع الطرفان الأول والثاني الحكومة والوساطة الأفريقية يدهما في يد بعض، تتأجج قوى المعارضة المتمثلة في الأحزاب السياسية والحركات المسلحة غضباً من تغيّر موقف الإدارة الأميركية التي كانت فيما قبل تُحابي هذه الحركات، لكنها أعلنت، أخيراً، وقوفها مع الحوار الوطني، ووعدت الحكومة بالضغط على الحركات المسلحة وقوى المعارضة بالتوقيع على خارطة التفاوض.
هذا الموقف الذي أعلنه مكتب المبعوث الأميركي في السودان، فسّره محللون بأنّه ناتجٌ عن التأثير السالب للحركات المسلحة في المحيط الإقليمي، ومشاركتها في حرب دولة جنوب السودان وامتدادها إلى الجوار الأفريقي، ما يشكل خطراً على المصالح الأميركية في المنطقة. أما موقف الآلية الأفريقية رفيعة المستوى فقد تعرّض للنقد منذ البداية، بسبب استراتيجية تجزئة التفاوض التي انتهجتها بالاتفاق مع الحكومة بعقد اتفاقيات سلام منفردة. وربما يكون السبب هو التكوين المعقّد للحركات المسلحة، فهناك حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان قيادة منّي أركو مناوي، وحركة جيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد نور. ومن هذه الحركات كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان (قطاع الشمال)، قد شاركت في الحكم بناءً على اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا عام 2005.
توحدّت هذه الحركات شكلياً بالتوقيع على "وثيقة كاودا" التي أصدرتها الحركة الشعبية (قطاع الشمال)، الفصيل الأكبر في قوات الجبهة الثورية بقيادة مالك عقار، مع ثلاث حركات مسلحة أخرى لإعلان تشكيل الجبهة الثورية (تحالف كاودا) في جبال النوبة، وتم التوقيع عليها في نوفمبر/تشرين الثاني 2011. وجاء هدف هذه الحركات مُعلَناً في إسقاط النظام الحاكم بالقوة العسكرية المسلحة، وتأسيس دولة جديدة على أنقاضه، ما جعل خيار التغيير الذي انتهجته المعارضة السودانية يتبعه من الاتجاه الآخر تصعيد عسكري مباشر. عمل ذلك التصعيد على تشتيت تركيز الحكومة وقواتها بتوسيع ساحات المعارك، وفتح جبهاتٍ جديدة في استعراضٍ واضح للقوة العسكرية، واجهته الحكومة باستعراضٍ آخر، غرضه تطويق قوات الجبهة الثورية.
توحدّت الجبهة الثورية بعد انقسامات الجماعات المسلحة. وكان في وسع الحكومة السودانية التفاوض معها كتنظيم واحد، للوصول إلى حلٍّ شامل، لكنها انتهزت فرصة إصرار بعض الحركات على التفاوض معها منفردةً، فعملت على ذلك. ورأت أنّ هذا بإمكانه أن يحقق نتائج ووسيلة ضغط على الحركات، ويضمن تنازلاتها، غير أنّ التفاوض مع كل حركةٍ على حدة أضرّ بعملية السلام، والوصول إلى اتفاق سلام شامل. وأدى ذلك، كنتيجة حتمية، إلى تجزئة الحلول والنتائج، خصوصاً وأنّ هناك قضايا شائكة أمام أطراف التفاوض، لا يكفي الاعتماد فيها على عوامل الشخصية الكارزمية لأيٍّ من قياداتها.
لم يكن بالإمكان إحلال السلام في السودان إلّا بتوقف الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، والمجتمع الدولي، والقوى السياسية السودانية، عن دعم الدخول في مفاوضات جزئية لوقف الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وكان أجدى أن تتحول منابر المفاوضات المختلفة في الدوحة وأديس أبابا، والتي تقودها الوساطتان القطرية والإفريقية، إلى منابر للتفاوض حول قيام عملية سلام شامل، من دون إقصاء لأي طرف على حساب الآخر، ومن دون بذل ترضياتٍ واستقطاب حركاتٍ على حساب أخرى، مهما اختلفت الرؤى في الوصول إلى حلول شاملة.
يؤكد الاتجاه العام الذي استحوذ على معظم التحليلات في هذا الشأن أنّ تجزئة التفاوض هي التي تقود إلى ارتفاع سقف المظالم والشكاوى من مشكلات التهميش، وهو ما يؤجج فتيل الصراع والحرب التي كلما أطفئت شعلتها استولدت ألف شعلة. وتستمر وفقاً لذلك دوامة المفاوضات اللانهائية، وتصدير حالة الصراع وعدم الاستقرار إلى مناطق أخرى، لتتسع رقعة الاحتراب، ويعيش سكان هذه المناطق في دوراتٍ متصلةٍ من الاحتراب والهدنة الشكلية.
الآن، تتضح أمامنا مقولة جنكيز خان (الملك العالمي): "أنا على استعداد للتضحية بنصف شعب المغول، لكي يستقيم النصف الثاني". وهكذا تفعل الحكومة السودانية والحركات المسلحة، فالحكومة لن يثنيها شيء من التضحية بشعب المنطقتين، ما دامت ترى الاستقامة في التمكين وتثبيت قواعد الحكم إلى أكثر من ربع قرن. والشيء نفسه تفعله الحركات المسلحة، فمنذ بدايات تكوينها، استعدت لهذا التحدّي، وكان الضحايا هم شعب جبال النوبة والنيل الأزرق، وأهل دارفور، ليتسنى لها كسب ما تبقى من السودان.
وبهذه الضربة المزدوجة، تكون الحصيلة محو نصف الشعب السوداني، لتكون نسخة الوطن الجديدة بعد انفصال جنوب السودان، هي ما نراه ماثلاً أمامنا.