السودان.. إلى أين تتجه الأزمة بعد فض الاعتصام؟

13 يونيو 2019

عصيان مدني في الخرطوم ضد المجلس العسكري(9/6/2019/فرانس برس)

+ الخط -

بعد ثلاثة أيام على حملة عصيان مدني لاقت تجاوبًا كبيرًا، نتيجة الهجوم الدامي على المعتصمين أمام مقرّ القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، وافق قادة الاحتجاج وقوى إعلان الحرية والتغيير على مقترح الوساطة التي يقودها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، بوقف العصيان واستئناف المفاوضات مع المجلس العسكري. في الوقت نفسه، دخلت الولايات المتحدة الأميركية على خط الأزمة، بإرسالها مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية إلى الخرطوم، في محاولة لمنع تدهور الوضع أكثر بعد مجزرة فض الاعتصام التي خلّفت أكثر من مائة قتيل.
فض الاعتصام
اقتحمت وحدات من قوى الأمن مقر الاعتصام فجر الثالث من حزيران/ يونيو 2019، وشرعت في إطلاق النار على المعتصمين، على الرغم من تعهداتٍ متكرّرة، قدّمها المجلس العسكري الانتقالي لممثلين من قوى إعلان الحرية والتغيير بعدم فض الاعتصام الجماهيري أمام مقر قيادة الجيش في الخرطوم بالقوة. وأدى هذا الاقتحام، بحسب لجنة أطباء السودان المركزية، وهي جسم مهني داعم للحراك، إلى سقوط 118 قتيلًا، من بينهم 40 جثة جرى انتشالها من النيل. وأظهرت صور أنّ بعض هذه الجثث كانت مربوطة بأثقال، لكيلا تطفو على السطح. وقد يرتفع عدد القتلى نتيجة وجود مفقودين. ووردت أخبارٌ مفزعة عن حالات اغتصاب واعتداءات جنسية مشينة. وبعد ساعات على عملية فض الاعتصام، قرّر المجلس العسكري إيقاف خدمة الإنترنت، في أنحاء البلاد كافة. وانطلقت إثر ذلك حملةٌ شرسة للترويع العشوائي، شملت أحياء من العاصمة الخرطوم، بما في ذلك عمليات قنص للأفراد.

في مساء اليوم الذي جرى فيه فض الاعتصام، ظهر رئيس المجلس العسكري الانتقالي، الفريق

عبد الفتاح البرهان، على شاشات التلفزيون، وأعلن إلغاء كل الاتفاقات التي جرى التوصل إليها مع قوى إعلان الحرية والتغيير، وعزمه تشكيل حكومة تكنوقراط، وإجراء انتخاباتٍ عامة خلال تسعة أشهر. ولكن نتيجة صمود الشارع السوداني وعدم انكسار قوى التغيير، وضغوط خارجية (أميركية تحديدًا تمّت على حلفاء المجلس العسكري في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) بعد انتشار أخبار الفظاعات التي ارتُكبت، عاد البرهان ليعلن، في اليوم التالي، أنّ المجلس العسكري الانتقالي مستعد للعودة إلى التفاوض مع قوى إعلان الحرية والتغيير.
المسار التفاوضي

كانت المفاوضات بين قوى إعلان الحرية والتغيير وقيادة المجلس العسكري الانتقالي انطلقت أواخر نيسان/ أبريل 2019. وفي أول اجتماعٍ بين الطرفين، طرح ممثلو المعارضة ستة مطالب رئيسة: تصفية النظام السابق، وتشكيل حكومة مدنية انتقالية مدتها أربع سنوات، وتعيين هيئة تشريعية، ومجلس رئاسي مدني، ومحاربة الفساد، وإصلاح الاقتصاد، وإعادة هيكلة جهاز الأمن. لكنّ الطرفين اختلفا في تحديد المدة الانتقالية، وتشكيل المجلس الرئاسي؛ إذ أصرّ العسكريون على تقليص الفترة الانتقالية من أربعة أعوام إلى عامين، ورفضوا اقتراح استبدال المجلس العسكري بمجلس مدني انتقالي، وتواصلوا مع القوى السياسية الأخرى، خارج إطار إعلان قوى إعلان الحرية والتغيير، ليدعموا موقفهم، وحصلوا منها على تأييدٍ يقضي باستمرارية المجلس العسكري في قيادة الفترة الانتقالية، ثم أقرّوا حق هذه القوى السياسية في تشكيل الهيئة التشريعية ومجلس الوزراء التنفيذي. وظهرت كتلة "نصرة الشريعة ودولة القانون" التي رفضت عملية التفاوض الثنائية مع قوى إعلان الحرية والتغيير، واصفة إياها بالقوى اليسارية التي تسعى إلى علمنة الدولة السودانية، وطالبت بحقها في المشاركة في تشكيل مؤسسات الفترة الانتقالية.

لم يسْع المجلس العسكري إلى محاولة ضرب القوى السياسية ببعضها فحسب، بل لجأ أيضًا إلى إستراتيجية ربح الوقت وتشتيت الخيارات السياسية؛ الأمر الذي دعا قوى إعلان الحرية والتغيير، في الأول من أيار/ مايو 2019، إلى أن تقدّم إلى المجلس العسكري "وثيقة دستورية" مفصلة حول رؤيتها للمرحلة الانتقالية، حددت فيها مستويات الحكم الثلاثة (الفدرالي، والإقليمي، والمحلي)، وتشكيل مؤسسات الحكومة الانتقالية من مجلس سيادة وطني، ومجلس وزراء تكون له السلطة التنفيذية العليا في البلاد، وهيئة تشريعية تختصّ بسلطة التشريع وسلطة الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، وسلطة قضائية مستقلة، وقوات نظامية تكون خاضعةً لقرارات السلطة السيادية والتنفيذية. ثم طالبوا المجلس العسكري الانتقالي بالرد على وثيقتهم الدستورية كتابةً خلال مدة أقصاها 72 ساعةً.

أدت جهود الوساطة بين الطرفين إلى تقدّم بعض الشخصيات الوطنية بمذكرة جديدة تكون أساسًا للتفاوض. واقترح الوسطاء قيام مجلسين؛ سيادي يتكون من أغلبية (سبعة أعضاء) ورئاسة مدنية مع تمثيل عسكري (من ثلاثة أعضاء)، وأمني يتشكل من أغلبية (سبعة أعضاء) ورئاسة عسكرية مع تمثيل مدني (ثلاثة أعضاء)، يشمل رئيس الوزراء، ووزيري المالية والخارجية، فضلًا عن تحديد اختصاصات مؤسسات المرحلة الانتقالية.

وردًا على وثيقة قوى إعلان الحرية والتغيير، عقد المجلس العسكري مؤتمرًا صحافيًا في 7 أيار/ مايو 2019، فنَّد فيه الفريق شمس الدين كباشي، الناطق الرسمي باسم المجلس، محتويات "الوثيقة الدستورية"، واتهم القوى التي تقف وراءها بإغفال "مصادر التشريع"، وانتقد فكرة تحديد الفترة الانتقالية بأربع سنوات، واقترح أن تكون بعض المسؤوليات والمهمات السيادية من صميم عمل المجلس الرئاسي (أو السيادي). وفي الوقت نفسه، رفض الفريق كباشي فكرة المجلسين التي وردت في مذكرة الوساطة، معللًا ذلك بأنّ مجلس الأمن والدفاع المقترح يجب ألّا ينظر إليه باعتباره مجلسًا موازيًا لمجلس السيادة، بل هو جهاز تنفيذي. وفي الوقت نفسه، هدّد بإجراء انتخابات مبكرة، إذا توصّل الطرفان إلى طريق مسدود في المفاوضات، كما أعلن عقد اجتماع عام مع قادة القوى السياسية الأخرى التي لم تكن منضويةً تحت لواء قوى إعلان الحرية والتغيير للتشاور معها في 177 مقترحًا قدّمتها بشأن تشكيل الفترة الانتقالية. وبهذه الكيفية، خلط المجلس العسكري أوراق التفاوض، ومال إلى إستراتيجية تشتيت الخيارات، وكسب الوقت.

انعقدت الجولة الثانية من المفاوضات المباشرة في 13 أيار/ مايو 2019، على الرغم من

تزايد شكوك القوى المدنية في نيات المجلس العسكري وميوله إلى الاحتفاظ بالسلطة، واستمرت يومين، في جوٍ سادته روح التفاؤل. وخلصت المفاوضات إلى تحديد الفترة الانتقالية بثلاث سنوات، وضبط مهمات المجلس الرئاسي ومسؤولياته، وتحديد عضوية الهيئة الاستشارية بـ 300 عضو (67% لقوى إعلان الحرية والتغيير، و33% للقوى السياسية الأخرى). وبذلك أضحت القضية العالقة الوحيدة هي تحديد نسب التمثيل في المجلس الرئاسي (السيادي) ورئاسة المجلس نفسها.

ولكن أجواء التفاؤل بقرب التوصل إلى اتفاق ما لبثت أن تبدّدت بسبب قتل ثمانية أشخاص في محيط ميدان الاعتصام، بحجة أنهم كانوا يحاولون إغلاق الطرق الرئيسة الواقعة في محيط الاعتصام، ويتحرّشون بالقوات النظامية وقوات الدعم السريع. وبناءً على ذلك، أعلن الفريق عبد الفتاح البرهان، في 15 أيار/ مايو 2019، تعليق المفاوضات مع قوى إعلان الحرية والتغيير 72 ساعة، إلى حين "إزالة المتاريس جميعها خارج محيط الاعتصام، ووقف التحرّش بالقوات المسلحة وقوات الدعم السريع والشرطة واستفزازها"، وفتح خطوط السكك الحديدية في منطقة الاعتصام. وبذلك أغلق الفريق البرهان الباب أمام الجلسة النهائية للمفاوضات التي كان متوقعا عقدها في مساء اليوم نفسه.
تدخلات خارجية

يبدو أنّ الإعلان المفاجئ لتعليق المفاوضات جاء نتيجة تدخل بعض القوى السياسية المحلية والإقليمية الرافضة سيطرة قوى إعلان الحرية والتغيير على الفترة الانتقالية، والمؤيدة استمرار قيادة المجلس العسكري الانتقالي. ويبدو أنّ قرار فض الاعتصام حصل على دعم كلٍ من السعودية، والإمارات، ومصر التي أعلنت تأييدها المجلس العسكري الانتقالي منذ البداية. كما أبدت الرياض وأبوظبي استعدادهما لدعمه ماليًا، لتجاوز مشكلات السودان الاقتصادية في هذه المرحلة، وتعهّدتا بتقديم مبلغ ثلاثة مليارات دولار. ويبدو أنّ انخراط الإمارات في دعم المجلس العسكري، وتحديدًا قوات الدعم السريع التي يقودها نائب رئيس المجلس العسكري، محمد حمدان حميدتي، وصل إلى حد إرسال آليات عسكرية لتعزيز وضعها، بحسب مجلة فورين بوليسي Foreign Policy التي نقلت عن مراسل صحيفة نيويورك تايمز The New York Times مشاهداته مركبات عسكرية إماراتية تجوب شوارع الخرطوم، والتي هي في الأصل مركبات عسكرية أميركية الصنع من طراز "همفي" Humvee، لا وجود لها في السودان، بحكم العقوبات الأميركية المستمرة منذ سنوات. كما تميل مصر إلى دعم تمسّك المجلس العسكري بالسلطة، وبما أنها تتولى الرئاسة الحالية للاتحاد الأفريقي، فقد تمكّنت من تعديل مهلة الإنذار الذي وجهه الاتحاد الأفريقي إلى ستين يومًا، وطالب فيه المجلس العسكري بتسليم السلطة إلى حكومةٍ مدنية في مدة أقصاها أسبوعان، وفي حالة عدم الاستجابة يتم تجميد عضوية السودان في الاتحاد.

أحدث تعليق المفاوضات إحباطًا عامًا في السودان، وزاد أيضًا من حدّة الاحتقان السياسي بين الطرفين. وألقى القرار بظلاله على الجولة الثالثة من المفاوضات التي بدأت في 19

أيار/ مايو 2019، واستمرت يومين. ولكنها لم تتوصل إلى اتفاق نهائي؛ إذ ظلت عقدة التمثيل في المجلس الرئاسي قائمة. ومن الحلول التي طُرحت أن يكون التمثيل بالتساوي (50%+ 50%)، وأن تكون رئاسة المجلس دورية بين الطرفين، سنة ونصف لكل طرف، أو أن تكون أغلبية المجلس مدنية ورئاسته عسكرية. إلا أنّ المجلس العسكري لم يستحسن أيًا من الخيارات المطروحة، وطلب مهلة 48 ساعة ليدرسها، ويعلن رأيه النهائي بشأنها. وفي الأثناء، دعت قوى إعلان الحرية والتغيير إلى إعلان العصيان المدني والإضراب العام في كل أنحاء السودان، بينما بدأ المجلس العسكري يلوّح بعصا الانتخابات المبكرة، لحسم الصراع مع قوى إعلان الحرية والتغيير، أو على الأقل تفكيك وحدتها. واستمر الوضع على هذه الحال، إلى أن باغت المجلس الجميع بقراره استخدام القوة لفض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش، الأمر الذي ردت عليه قوى المعارضة بدعوتها إلى عصيان مدني شامل، وإضراب سياسي مفتوح حتى إسقاط المجلس العسكري.
الوساطة الإثيوبية وواشنطن على خط الأزمة

زار رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، الخرطوم في 7 حزيران/ يونيو للوساطة بين طرفي الأزمة، نتيجة تدهور الوضع الأمني بعد مجزرة فض الاعتصام، ومخاوف من انزلاق البلاد نحو العنف والفوضى. وتقدّم بمقترحٍ لاستئناف المفاوضات، وحل عقدة تشكيل المجلس الرئاسي الذي يتولى إدارة المرحلة الانتقالية، بحيث يتكون من 15 عضوًا، سبعة منهم عسكريون والباقي من المدنيين. ونتيجة تمسّك المعارضة برفضها أيّ مفاوضات مباشرة مع المجلس العسكري الانتقالي، قبل إجراء تحقيق في مجزرة فض الاعتصام، ومحاسبة المتورطين، بدأ المجلس العسكري يتحدث عن تحميل بعض الضباط والعناصر من القوات النظامية مسؤوليات في فض اعتصام الخرطوم، وتعهد بالإعلان عن نتائج تحقيق يجريه في المجزرة للرأي العام خلال 72 ساعة. وأعفى تسعين ضابطًا، من جهاز الأمن، كثير منهم برتبة لواء، في محاولة أخرى على ما يبدو لتنفيس الاحتقان، وتسهيل العودة إلى المسار التفاوضي. وقد تزيد هذه الخطوات عمومًا من نقمة الجيش، الناقم أصلًا على نفوذ قوى الدعم السريع. وقد يكون لهذه التناقضات داخل القوى المسلحة شأنٌ في المستقبل.

بالتوازي مع جهود الوساطة الإثيوبية، قرّرت الولايات المتحدة إيفاد مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، تيبور ناج، إلى السودان. وتتحدّث تقارير عن انقسامٍ داخل إدارة الرئيس دونالد ترامب تبرّر تأخر اهتمامها بما يجري في السودان، فالرئيس نفسه لا يبدي أي دعم للثورة السودانية، ويتبنى تمامًا مواقف المحور المعادي للتغيير في المنطقة، في حين يميل بعض المسؤولين في إدارته إلى أن يتم توكيل الملف لثلاثي الحلفاء (السعودية، ومصر، والإمارات). ولكن الدموية التي طبعت قرار فض الاعتصام وردود الفعل الدولية المستهجنة أثبتا فشل هذه

السياسة، وقادتا إلى ضغط القوى المدنية في أميركا التي كانت أصلًا فاعلة ضد نظام عمر البشير (بما فيها قوى يمينية وحتى كنسية)، إضافة إلى موقف الصين وروسيا الداعم للمجلس العسكري. وضعت هذه العوامل واشنطن في موقفٍ حرجٍ دعاها إلى العودة إلى الاهتمام بالموضوع اهتمامًا مباشرًا، وإرسال تيبور ناج إلى الخرطوم، وتعيين مبعوث خاص للتعامل مع أزمة السودان، وهو الدبلوماسي السابق دونالد بوث الذي كان قد تولى هذا المنصب سابقًا؛ لاحتواء الضرر الذي تسببت فيه سياسات مصر والإمارات والسعودية. ويأتي الدخول الأميركي المباشر بهذه الدوافع في غير صالح هذا الثلاثي. وفي النهاية، أوقفت قوى التغيير العصيان المدني لإدراكها أن الاستمرار فيه إلى أجل غير مسمى في بلد فقير غير ممكن، إذ سيحتاج الناس إلى القيام بأود حياتهم اليومية وتدبير معاشهم.
خاتمة
أصابت مذبحة ساحة الاعتصام ثقة السودانيين بالمجلس العسكري في مقتل، وزادت الشكوك الموجودة أصلًا بشأن رغبته في التمسّك بالسلطة، بدعم خارجي. كما وضعته مع مكونات الدولة العميقة في خانة الدفاع وسط حالةٍ من تبادل التهم بالمسؤولية عمّا جرى في ساحة الاعتصام، على نحوٍ قد يفتح الباب على تصدّعات بين النخب العسكرية والأمنية الحاكمة، خصوصا في ضوء تفضيل قوى الدعم الخارجي بعض هذه القوى على بعض. لن تكون معركة القوى المدنية والديمقراطية سهلةً مع إصرار قوى الثورة المضادة على إجهاض أيّ منجزٍ ديمقراطي في السودان، ومحاولة إعادة إنتاج النظام القديم بثوبٍ جديد. ويزيد من صعوبة الوضع الموقف الأميركي المتساهل مع التدخل السعودي الإماراتي، إضافةً إلى قطع الصين وروسيا الطريق أمام أي محاولاتٍ ليُصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراراتٍ تدين المجلس العسكري وتحمّله المسؤولية عن مجزرة فض الاعتصام. كل هذا يجعل القدرة على الصمود والحشد السلمي والحفاظ على وحدة الصف، واستقطاب مزيد من الحلفاء في الداخل، السلاح الرئيس بيد قوى الثورة، للوصول إلى التحول الديمقراطي السلمي المنشود.