14 نوفمبر 2024
السلم شكلاً من أشكال الحرب
في الحرب: نتجمَّد في أمكنتنا. تسيطر على حياتنا نيران المليشيات المختلفة، "عدوة" كانت أم "صديقة". غريزة البقاء محرّكنا. إذا تحرّكنا، فمنع التجوّل هو نصيب ساعات الانتظار التي تنتظرنا. وبذلك تختلّ يومياتنا. ولا قرار واحد بيدنا. معزولين عن بعضنا، سوى من عائلتنا، سندنا الأخير. لا مجال نجتمع فيه؛ متكوّمين على أنفسنا، ذعراً أو ترقباً أو انتظارا.. المزيد من الانتظار.
القوة السافرة، المباشرة، "على الأرض"، تتصدّى لمعيشتنا، لتنقّلاتنا، لإصلاح خللٍ ضرب في مياهنا أو كهربائنا أو قساطلنا. معزولون، مؤجَّلون، عاجزون، متناثرون في ظلمة مخابئنا، رافضون للنظر إلى ملامح وجوهنا. ومن يتسنّ له الهروب من بيننا، يهاجر برفقة الحسرة. إلى أوطانٍ أكثر رحمة، فيما الحقائق ضائعة، ينبش الباحثون عنها في فناجين المنجّمين، أو كراتهم البلورية.
في السلم الذي باتَ في لبنان يقترب الآن من العقدين: أشياء قليلة تغيرت. بقينا معزولين عن بعضنا. أوصالنا قُطِّعت بسكِّينٍ أكثر نعومة. سكين الجهل والتجاهل والكراهية والعيون الضيقة؛ بين طوائفنا ومذاهبنا، وفي قلب تلك الطوائف والمذاهب. سكّين أخرى قضت على وشائجنا: منعتنا من التجوّل، كما في الحرب، حمايةً لأنفسنا من عفاريت الإسفلت، وفوضاهم الجهنمية. والطرقات نفسها تحتضن عمراناً من خرائب: ضيقة ومهلهلة، مثقوبة، مطلية، غير مطلية، متراصة، مرْتمية بعضها على بعض.
مبدأ القوة، الخفية والمعلنة، يحكم أوقاتنا. وغريزة الموت تتصدّى لكل باعثٍ على الحياة. والفقر نتنشّقه من هوائنا المتعفِّن بالمازوت والنفايات المعتَّقة. حقيقتنا؟ نستحي منها. لا نود النظر إليها. نستبدل بها المنجِّمين، وقد صعدوا إلى رتبةٍ أعلى، يحتلون الشاشات والقلوب.
المليشيات لبست رداء الحكومة، وباتت حاكمة. والهجرة في عزّ أيامها، وفي عزّ عصيانها. والفرق بين الموت في الحرب والموت في السلم: تهرب من الأول، وتتمنّى الثاني. ففي السلم أيضاً، لا نستطيع أن نفكر، أن نبادر، أن نلقي شيئا عن كواهلنا المثقلة على أترابنا. ومن هم هؤلاء الأتراب على كل حال؟ معزولون أيضا، متقطِّعو الوشائج، عاجزون. وكلما حاولنا... لبِست المليشيات أطقما مدنية لتخوض تكتيك إجهاضنا. بقوة خفية وعلنية، مسلّحة وغير مسلحة، وكلها تنال من رزقنا، يومياتنا، جيوبنا. وخوات زمن المليشيات المسلحة وسرقاتهم المشهودة، تبدو لعبة عيال أمام سطو ذريتهم على مرافق الدولة، الحلوب، الغنية. و"السطو" هو الكلمة العلمية الدقيقة لوصف "المحاصصة"، الأكثر أناقة.
لا فرق تقريباً بين الحرب و"السلم" الذي "ننعم" به الآن غير شكلياتٍ من نوع أن القصف العشوائي توقف، وأن الشلل انتقل من الركبة إلى العقل. ولا تغرّنك المظاهر، من نوع التنعّم بالهدوء "الأمني" قياساً إلى البراكين المحيطة بنا، فالواقع أن ظروفنا لم تتغير، بعد انتهاء فصول حربنا. حاولنا التكيّف، مكاذبة النفس، تحسين ظروف. على مدى عشرين سنة من "السلم"، ما زلنا نعيش في ظروف الحرب، وعقليتها، ومبانيها، ومسالكها، وظلمها. وهذا ولم نحسب حساب الحرب "الأخرى"، تلك التي يمكن أن تعود فتندلع، كما يمكن أن لا تندلع، بيننا وبين إسرائيل. مع أن تسليط سيفها فوق رقابنا، وحده، هو حرب إضافية، غير ثانوية، تطعم حربنا "السلمية" الراهنة ما يلزمها من الشحنَات.
ما الفرق بين الحرب و"سلمنا" الحالي؟ لا شيء كثير، كما تلوّح الإشارات. إنما الفرق واحد، أساسي، في مخيلات الذين رافقوا هذه الحرب: فكرة كانت قويةً، دفعة أملٍ داخلية بمثابة السند الروحي، من أن الحرب سوف تنتهي يوماً ما، وتعود بلادنا كما كانت. كم كنا نزْدريها تلك البلاد، وكم صرنا نحلم بها. في ذاك الزمن الكالح، كنا نستمع إلى أغاني فيروز الجديدة، "حكي لي عن بلدي" و"بحبك يا لبنان"، نبكي بدموعٍ حارقةٍ غزيرة، شوقاً لهذا اللبنان الذي كنا نسخر من أرزته. فعل ندامةٍ وفعل تمنٍّ، ورجاء، أيضاً. أما في السلم، في سلم قارب العشرين عاماً الآن، فلا تمنٍّ ولا رجاء.
هذا ما يجعلنا نتندَّر على المنظِّر الإستراتيجي البروسي، كارل فون كلاوزفيتز، صاحب القول الشهير "الحرب ليست سوى شكل من أشكال السياسة" (أواسط القرن التاسع عشر). وقصده بالسياسة طبعاً السلم. كان كلاوزفيتز ينظّر للحروب الأوروبية النابوليونية التي تقتصر، كما يقول، على "الشعوب "المتحضّرة" (يفرّق بين الشعوب "المتحضرة" والشعوب "المتأخرة التي تقاتل عن غريزة"): تلك الحروب التي تُخاض على حدودها، بجيوشٍ منظّمة، وقادة عسكريين، وقواعد وخطط، وإرادات مستقلة. حروبٌ لا تطاول العمق. ومن دروس هذه الحروب، المختلفة عن حروبنا، خرج كلاوزفيتز بالجملة التي تعمّمت على الدنيا كلها: "الحرب ليست سوى شكل من أشكال السياسة"، لكن هذا الإرث حان وقت قلْبه من أساسه، في منطقتنا بالخصوص، وبحروبنا منقطعة النظير، والقول إن السياسة، أو السلم، "شكل من أشكال الحرب". ذلك أن الحرب عندنا "غير المتحضرة"، غير النظامية... هي الأساس، فيما الهدن، لا السلم، هي الاستثناء، الاستثناء الغالي.
في السلم الذي باتَ في لبنان يقترب الآن من العقدين: أشياء قليلة تغيرت. بقينا معزولين عن بعضنا. أوصالنا قُطِّعت بسكِّينٍ أكثر نعومة. سكين الجهل والتجاهل والكراهية والعيون الضيقة؛ بين طوائفنا ومذاهبنا، وفي قلب تلك الطوائف والمذاهب. سكّين أخرى قضت على وشائجنا: منعتنا من التجوّل، كما في الحرب، حمايةً لأنفسنا من عفاريت الإسفلت، وفوضاهم الجهنمية. والطرقات نفسها تحتضن عمراناً من خرائب: ضيقة ومهلهلة، مثقوبة، مطلية، غير مطلية، متراصة، مرْتمية بعضها على بعض.
مبدأ القوة، الخفية والمعلنة، يحكم أوقاتنا. وغريزة الموت تتصدّى لكل باعثٍ على الحياة. والفقر نتنشّقه من هوائنا المتعفِّن بالمازوت والنفايات المعتَّقة. حقيقتنا؟ نستحي منها. لا نود النظر إليها. نستبدل بها المنجِّمين، وقد صعدوا إلى رتبةٍ أعلى، يحتلون الشاشات والقلوب.
المليشيات لبست رداء الحكومة، وباتت حاكمة. والهجرة في عزّ أيامها، وفي عزّ عصيانها. والفرق بين الموت في الحرب والموت في السلم: تهرب من الأول، وتتمنّى الثاني. ففي السلم أيضاً، لا نستطيع أن نفكر، أن نبادر، أن نلقي شيئا عن كواهلنا المثقلة على أترابنا. ومن هم هؤلاء الأتراب على كل حال؟ معزولون أيضا، متقطِّعو الوشائج، عاجزون. وكلما حاولنا... لبِست المليشيات أطقما مدنية لتخوض تكتيك إجهاضنا. بقوة خفية وعلنية، مسلّحة وغير مسلحة، وكلها تنال من رزقنا، يومياتنا، جيوبنا. وخوات زمن المليشيات المسلحة وسرقاتهم المشهودة، تبدو لعبة عيال أمام سطو ذريتهم على مرافق الدولة، الحلوب، الغنية. و"السطو" هو الكلمة العلمية الدقيقة لوصف "المحاصصة"، الأكثر أناقة.
لا فرق تقريباً بين الحرب و"السلم" الذي "ننعم" به الآن غير شكلياتٍ من نوع أن القصف العشوائي توقف، وأن الشلل انتقل من الركبة إلى العقل. ولا تغرّنك المظاهر، من نوع التنعّم بالهدوء "الأمني" قياساً إلى البراكين المحيطة بنا، فالواقع أن ظروفنا لم تتغير، بعد انتهاء فصول حربنا. حاولنا التكيّف، مكاذبة النفس، تحسين ظروف. على مدى عشرين سنة من "السلم"، ما زلنا نعيش في ظروف الحرب، وعقليتها، ومبانيها، ومسالكها، وظلمها. وهذا ولم نحسب حساب الحرب "الأخرى"، تلك التي يمكن أن تعود فتندلع، كما يمكن أن لا تندلع، بيننا وبين إسرائيل. مع أن تسليط سيفها فوق رقابنا، وحده، هو حرب إضافية، غير ثانوية، تطعم حربنا "السلمية" الراهنة ما يلزمها من الشحنَات.
ما الفرق بين الحرب و"سلمنا" الحالي؟ لا شيء كثير، كما تلوّح الإشارات. إنما الفرق واحد، أساسي، في مخيلات الذين رافقوا هذه الحرب: فكرة كانت قويةً، دفعة أملٍ داخلية بمثابة السند الروحي، من أن الحرب سوف تنتهي يوماً ما، وتعود بلادنا كما كانت. كم كنا نزْدريها تلك البلاد، وكم صرنا نحلم بها. في ذاك الزمن الكالح، كنا نستمع إلى أغاني فيروز الجديدة، "حكي لي عن بلدي" و"بحبك يا لبنان"، نبكي بدموعٍ حارقةٍ غزيرة، شوقاً لهذا اللبنان الذي كنا نسخر من أرزته. فعل ندامةٍ وفعل تمنٍّ، ورجاء، أيضاً. أما في السلم، في سلم قارب العشرين عاماً الآن، فلا تمنٍّ ولا رجاء.
هذا ما يجعلنا نتندَّر على المنظِّر الإستراتيجي البروسي، كارل فون كلاوزفيتز، صاحب القول الشهير "الحرب ليست سوى شكل من أشكال السياسة" (أواسط القرن التاسع عشر). وقصده بالسياسة طبعاً السلم. كان كلاوزفيتز ينظّر للحروب الأوروبية النابوليونية التي تقتصر، كما يقول، على "الشعوب "المتحضّرة" (يفرّق بين الشعوب "المتحضرة" والشعوب "المتأخرة التي تقاتل عن غريزة"): تلك الحروب التي تُخاض على حدودها، بجيوشٍ منظّمة، وقادة عسكريين، وقواعد وخطط، وإرادات مستقلة. حروبٌ لا تطاول العمق. ومن دروس هذه الحروب، المختلفة عن حروبنا، خرج كلاوزفيتز بالجملة التي تعمّمت على الدنيا كلها: "الحرب ليست سوى شكل من أشكال السياسة"، لكن هذا الإرث حان وقت قلْبه من أساسه، في منطقتنا بالخصوص، وبحروبنا منقطعة النظير، والقول إن السياسة، أو السلم، "شكل من أشكال الحرب". ذلك أن الحرب عندنا "غير المتحضرة"، غير النظامية... هي الأساس، فيما الهدن، لا السلم، هي الاستثناء، الاستثناء الغالي.