السكن الاجتماعي في فرنسا

26 أكتوبر 2018
في أحد الأحياء شمالي باريس (لودوفيك مارين/ فرانس برس)
+ الخط -


في فرنسا، خمسة ملايين وحدة سكن اجتماعي تقريباً، خُصّصت لإفادة أصحاب الدخل المحدود. لكنّ الطلب كثير عليها، الأمر الذي يجعلها بعيدة عن متناول من يحتاج إليها.

في شقّة صغيرة تقع في الطبقة العاشرة من مبنى كبير بالعاصمة الفرنسية، تسكن سعيدة البقالي السبعينية وتسدد بدل إيجار قيمته 550 يورو. المبلغ يُعَدّ ضخماً بالنسبة إلى شقّة تقلّ مساحتها عن 18 متراً مربعاً، في حين أنّ معاشها التقاعدي لا يتجاوز 754 يورو. ولا تتوقّف البقالي التي لا يشاركها أحد سكنها، لا زوج ولا أبناء، عن تذكير نفسها بضرورة "الاقتصاد جيداً. عليّ أن أعيش بما يتبقّى... 204 يورو".

وإذا كانت شقّة البقالي تتألّف من غرفة واحدة ومطبخ صغير جداً وحمّام، فإنّ علي الراجي السبعيني الذي يعيش بمفرده في باريس، يقطن في غرفة واحدة من دون أيّ منتفعات، لا مطبخ ولا حمام، إنّما تتضمّن صنبور مياه فقط، وذلك في مقابل 300 يورو، بينما تقاعده لا يتجاوز 700 يورو. أمّا عبد الرحمن الجلدي فيقيم مع زوجته وأربعة من أبنائه في مسكن لا تتجاوز مساحته 26 متراً مربعاً، يتألّف من غرفتين، وبدل إيجاره 750 يورو، أي ما يوازي نصف راتبه. يُذكر أنّ الزوجة لا تشتغل، لكنّها مكلّفة بإدارة مصاريف الأسرة. يقرّ الجلدي بأنّه ينتظر سكناً اجتماعياً منذ خمسة أعوام، "لكنّ البلدية تنصحني بمغادرة المدينة إلى أخرى، إذ إنّ حظوظ الحصول على سكن هنا هزيلة جداً".

تكثر حالات العائلات والأفراد الذين لم ينجحوا في العثور على سكن اجتماعي. لو كانت سعيدة البقالي حاصلة على سكن اجتماعي، لكانت دفعت فقط ما يوازي نصف بدل الإيجار الذي يستنزفها الآن. والسكن الاجتماعي في فرنسا يأتي من خلال مبادرات، إمّا عمومية وإمّا خاصة، تهدف إلى تأمين سقف للفئات الاجتماعية غير الميسّرة مادياً التي تعجز عن السكن في مشاريع القطاع الخاص. ومهاجرون كثر وجدوا أنفسهم في مثل حالة سعاد البقالي وعلي الراجي وعبد الرحمن الجلدي، إذ إنّ الإقبال على السكن الاجتماعي كبير جداً، بينما العرض ليس مناسباً، الأمر الذي يتطلب في أحيان كثيرة انتظار مدّة طويلة قبل الحصول على ذلك السكن. كذلك تبدو شروط الحصول عليه صعبة في بعض الأحيان، لا سيّما بالنسبة إلى الذين يعيشون بمفردهم. تجدر الإشارة إلى أنّ البقالي كانت قد تلقّت عروضاً لسكن اجتماعي في خارج العاصمة، لكنّ ظروفها الصحية لا تسمح لها بالتنقّل في مواصلات متعبة، لا سيّما أنّ لديها ارتباطات يومية بباريس.




ولأنّ الحصول على هذا النوع من السكن يثير شهيّة كثيرين، تجدهم يصرّون على الأمر ويبدون استعداهم لتغيير مناطق سكنهم، وهو ما يكلّفهم في بعض الأحيان الإقامة بعيداً عن مراكز عملهم. ولعلّ الأسوأ هو أن يرحّلوا أولادهم إلى مدارس جديدة، فيفقد هؤلاء بيئتهم وأصدقاءهم، ما يضطرهم إلى الانتظار وقتاً طويلاً أحياناً لتكوين علاقات جديدة، مع كلّ ما يخلّفه ذلك من تبعات نفسية. أسرة جواد وآمنة القرفي عانت كثيراً في هذا السياق، بسبب صعوبة تأقلم أبنائها في المؤسسات التعليمية الجديدة. ويخبران أنّ "الأمر تطلّب زيارات عدّة لمتخصص نفسي، بينما الأولاد ما زالوا يلوموننا على خيارنا"، مؤكدين أنّ "الخيار في حقيقة اتّخذناه من أجلهم. وهم لا يعرفون أنّنا لم نكن عند انتقالنا قادرين على توفير كلّ ما يحتاجون إليه".

الضواحي والأحياء الشعبية والفقيرة هي المكان الأنسب للعثور على هذا النوع من السكن، في الغالب. ويعود ذلك في حالات كثيرة إلى إصرار البلديات التي يديرها اليمين على عدم توفير هذا النوع من السكن، نظراً إلى ما يمثله من اختلاط اجتماعي قد يؤثّر على راحة الشرائح الميسورة وأمنها. وعلى الرغم من القانون الذي يلزم البلديات الفرنسية كلها بتخصيص نسبة من مساكنها للسكن الاجتماعي، فإنّ بلديات كثيرة تفضّل تحمّل الضرائب التي تفرَض عليها كإجراءات عقابية على أن تشيّد ما يصلح ليكون سكناً اجتماعياً. بالنسبة إلى تلك البلديات، من شأن ذلك أن يحمل البؤس إلى مناطقها ويدفع المجالس البلدية والإقليمية إلى صرف مساعدات اجتماعية. بالتالي، ليس غريباً أن تقيم نسبة كبيرة من المستفيدين من السكن الاجتماعي، في مقاطعات باريس الفقيرة التي يديرها اليسار في الغالب، أو في الضواحي الباريسية الأكثر فقراً، خصوصاً في إقليم سين سان دوني الذي تصل فيه نسبة الأجانب أحياناً إلى 30 في المائة، مثلما هي الحال في مدينة مونتروي.




في السياق، يؤكد المتخصص في علم الاجتماع قدور زويلاي لـ"العربي الجديد" أنّه لا يوجد حلّ سحريّ لهذه المعضلة، لا سيّما بالنسبة إلى المهاجرين العرب، ويشرح أنّه "في غياب إنتاج الجالية العربية المسلمة اقتصادها القوي المستقل نسبياً، وفي غياب بناء أدواتها، وفي غياب تضامن مكوّناتها مثلما هي الحال في جاليات أخرى، فإنّ المعاناة سوف تستمر".

لا تخبر سعيدة البقالي ولا علي الراجي كيف يتمكّنان من الصمود بما يتبقّى من راتبَيهما حتى نهاية كلّ شهر، غير أنّ الأمر صعب من دون شك. وفي سياق متصل، تبيّن جمعيات إغاثية مختلفة من خلال التقارير التي تصدرها أخيراً، توجّه فئة جديدة إليها للاستفادة من مساعدتها. هي فئة المسنّين الذين لم يكونوا يقصدونها قبل الأزمة الاقتصادية الأخيرة.