السكر والشاي وعزاء عمي أبو حاتم
رأيته يتواجد كل يوم في مجلس عزاء عمي رحمه الله، منذ أول يوم للعزاء وحتى ثالثه. يسرح بأفكاره على انفراد. رغم الفاجعة التي ألمت بيّ، الا أن منظره استثارني وأثار تساؤلاتي ...
من يكون هذا الشخص وما درجة معرفته بعمي رحمه الله، لكن لمَ العجب؟!
عمي شغل الكثير من المناصب الحساسة. كان آخرها مدير جوازات محافظة الأنبار، فحتماً سيكون له شبكة علاقات واسعة.
بالعودةإلى من شغل البال وأثار السؤال؛ كان مختلفاً عن المعزين كافة. هيئته توحي بأنه ضابط. ملامحه ذات خشونة تضفي عليه مهابة مقاتل. نظراته الحادة تزيد من هيبته وتعمق حضوره بيننا.
انقضى يومان من مجلس العزاء الاستثنائي بحضوره وأحاديثه وكلمات المعزين بمختلف طبقاتهم الاجتماعية. ودخلنا اليوم الأخير، والذي يكون زخماً على خلاف أخويه الماضيين. وكونه الأخير، فإن وقعه على النفوس أقل صخباً وألماً.
أنهينا مأدبة غداء العزاء، والتي اعتاد العراقيون على تنظيمها في أيام حزنهم على فراق أحبتهم كتقليد متوارث. وبفضول خجول، طلبت من ابن عمي تهيئة طاولة صغيرة عليها قدحان من الشاي، ووضعهما حيث يجلس الرجل.
واقتربت منه كطفل خجول، وجلست بمحاذاته مُسلِماً. ومن دون أن ينظر إلي، ردّ السلام، كان لصوته خشونة وجهارة.
- "هل لي بأن اتشرف بمعرفتك أستاذ"، سألته برغبة.
- "أنا صديق عمك"، أجابني بحسرة بدت واضحة على مخارج حروفه.
خمنت ذلك في نفسي، فالحزن كان واضحاً بنبرة صوته وهو يقرأ سورة الفاتحة كلما ناد منادٍ بقراءتها.
بعد صمت ثوان، مرت كساعات طوال، بادر الحديث معي دون سؤال مني.
- "لا أعرف كيف أعبر عن ألمي برحيل من كان سبباً في تقدمي وبلوغ طموحي. كيف لي أن أنسى ذلك الرجل الذي أعانني ودعمني كأخ وصديق. كنت أحلم بنيل الماجستير في العلوم العسكرية، فتحقق الحلم بفضل الله ومن ثم فضل أبو حاتم. وأنا الآن طالب دكتوراه في السنة الثانية.
أعانكم الله على رحيله، يا لمرارة الشعور في قلبي. فكيف قلبكم أنتم يا من عاش معه سنوات طوالاً"، قال لي مظهراً تماسكه.
- "لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار ولا مرد لأمر الله"، أجبته مواسيا نفسي وإياه.
كان يريد البكاء ... هكذا أحسست
مرت دقائق من الصمت المشحون بالحزن، حتى دقت مسامعنا آية كريمة "يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية". فجأة، نهض جليسي بعينين باكيتين قائلاً:
- لأبو حاتم نزاهة وأصالة لا يعلمها الا الله، ثم من عمل معه طويلاً، ولو أردت سردها لاحتجت لأيام طوال ولن أوفي حقها.
من مواقفه رحمه الله أن أعاد سجلات القيد للآلاف من أهالي ناحية البغدادي، وهي ناحية تتبع إدارياً قضاء هيت في محافظة الأنبار، حيث أخفى الأميركيون جميع سجلات القيد وزعموا أنها أحرقت، مما زاد المعاناة، اذ كيف سيسيّر الناس أحوالهم، وهم لا يملكون قيودا تدل على أنهم عراقيون في عراق ما بعد صدام حسين.
وبعد استفحال المشكلة، قررت الداخلية العراقية تشكيل لجنة للبحث والتنقيب عن السجلات، كنت أنا أحد أعضائها، وكلف المرحوم برئاستها.
كنا كمن يبحث عن إبرة في كومة قش. لكن أبو حاتم، لم يكن يشعر باليأس كما كنا نشعر. فهو يثق بربه ومن ثم ثقته بخبرته وإمكانياته التي جعلت الوزارة تختاره لمهمة بهذه الصعوبة.
كان العمل يسير بطريقة عجيبة. كان فريقنا يعمل لجمع أوليات السكان بدقة متناهية من خلال مقابلتهم شخصياً. كان المرحوم يدقق بكل شيء قبل أن يصدر الأمر النهائي باعتماد المعلومات وتوثيقها لكل فرد.
مرت أيام من العمل المضني والمتأني. وأنجز بعدها بطريقة يمكنني أن أصفها بالـ"الذهبية"، لتعتمد الوزارة تلك الطريقة في عموم محافظات العراق متيمنة باسم الفقيد.
كان مهنياً وعملياً لدرجة كبيرة. كم مرة حاولت أن أضيفه في منزلي طيلة أيام العمل، لكني كنت أتردد مخافة أن يعتذر. كما اعتذر لعشرات الطلبات. كان يقول إنه لو قبل دعوتي، فسيكون بحرج شديد؛ اذا إن عليه أن يقبل جميع الدعوات. كان عزيز النفس.
كان نزيهاً حتى أمام أتفه الأشياء. أذكر أنه أخرج أحد أعضاء فريق العمل من لجنته كونه كان يأخذ من المراجعين شاياً وسكراً فقط. وفي أحد الأيام، وكما هي العادة/ جاء الشخص المكلف بالضيافة. لكن العقيد رفض شرب الشاي بطريقة مهذبة، وقال شكراً أنا صائم. انتبهت للحالة، وأحسست أن الأمر ليس كما يقول، فبادرته: سيدي اليوم ليس الاثنين ولا الخميس. أجابني بنبرة مختلفة، سأصوم كل الأسبوع إن اضطررت لذلك.
- لكن سيدي رأيتك تشرب الماء عندما دخلت بداية الدوام. سكت قليلاً، وقال: ناولني هذا السجل من خلفك.
لكن الفضول تمكن مني، فقلت: سيدي بالله عليك أن تخبرني ما هي قصتك اليوم؟ هل الموظف غير نظيف أم أنك.. أم هناك شيء آخر؟
سألني: منذ متى بالضبط ونحن نشرب شاياً حراماً
أجبته: عفواً سيدي ماذا تقصد.
قاطعني: منذ متى والناس تتصدق علي وعلى ضباطي بالسكر والشاي؟؟ اسمع خالد، أحسب عدد الأيام التي عملنا بها وكمية السكر والشاي التي صرفت حتى أعطيك هذا المبلغ فوراً. ومن اليوم أنت خارج فريقي في العمل. لعلمك، أنا شاهدت الشخص الذي يحمل كيساً بيده، وسلمه لك وبقيت متابعاً لك حتى قمت بفتحه، وتأكدت أنه كميه من الشاي والسكر، تأخذها منهم لتسهل لهم معاملاتهم، منذ متى ونحن نؤخر معاملة أحد؟
منذ تخرجي، عملت مديراً وأنا برتبة ملازم، ولا أتذكر أنني أخرت أحداً، أو أرجعت مواطناً بيوم من الأيام، والله يشهد بذلك. وهنا، أغرورقت عيناه بالدمع، وهو يقول: كيف سأكفر عما شربنا في تلك الفترة؟ ماذا يقول الناس عنا، ونحن نسير لهم أعمالهم مقابل كوب من الشاي؟ أسال الله أن يلهمني كفارة ذلك. وأول هذه الكفارات أنك خارج فريقي. وثانيهما سنضاعف أوقات العمل لننجز المهمة بأسرع وقت ممكن.
هذه قصة تشهد بنزاهته، ختم خالد.
كان يردد أن الحرام، وإن قل، فهو خطير جداً، كخطورة الشرر قرب خزان وقود مكشوف.
أحبه جميع الناس بلا استثناء. لم يسبق في دوائر الداخلية في محافظة الأنبار، أن يُمدح شخص بإجماع الناس، كل ذلك المديح له ولفريقه.
يا لفخر أن يكون عمي أبو حاتم.إنه فخر لزملائه وللأنبار. قلت في نفسي، وأنا استمع لحديث النقيب خالد، رفيق عمي العقيد.
كان من جميل الأقدار أن دائرة جوازات الأنبار، حازت على درع النزاهة لتفوقها على أخواتها في المحافظات الأخرى. واستلمته في صباح يوم عزائه الثالث، والذي حدثنا عنه خالد في مسائه.
نسيت أن أخبركم، يستدرك خالد، أن الشاي الذي كنا نشربه كنت أجلبه من بيتي، وأخبرته رحمه الله بذلك بعد مدة، ففرح كثيراً.
استشهد العقيد كريم حميد خنيفر بلغم أرضي استهدفه، وهو في طريقه إلى مقر عمله في مدينة الرمادي، لتكون خاتمة حياته الشهادة وهو على القيم النبيلة التي تربى عليها...