30 أكتوبر 2024
السعودية إلى أين؟
اختار ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، لحملة التطهير التي يقوم بها داخل البيت السعودي شعاراً جذاباً هو "محاربة الفساد"، لكسب تعاطف الشرائح الواسعة في السعودية المتضرّرة من اقتصاد الريع، وللفت انتباه الغرب ونيل رضاه.
ولو كانت السعودية بلداً ديمقراطياً يتم تداول السلطة فيها بالانتخابات، فإن شعار "محاربة الفساد" كان سيصلح لأن يكون عنوان حملة انتخابية ناجحة، لكن الحال أن بلاد الحرمين تعد اليوم من الدول القلائل التي مازال يحكمها نظامٌ تقليديٌّ، يقوم على تحالف مقدس ما بين مؤسستين تقليديتين، هما الأسرة الحاكمة، المتمثلة في نسل الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة، والمؤسسة الدينية الممثلة في المذهب الوهابي الذي أسسه محمد بن عبد الوهاب، ويقوم اقتصادها على الريع والامتيازات التي توزع طبقا لمعيار بيولوجي واحد، هو الانتماء إلى الأسرة المالكة.
لذلك، فإن الحديث عن "محاربة الفساد" داخل مملكة اقتصادها مبنيٌّ على الريع، والفساد ينخر كل مؤسسات الدولة فيها بدون استثناء، يبدو كمن يفسر الماء بالماء، لأن محاربة الفساد تقتضي وجود قضاء مستقل، ودولة مؤسسات قوية وأجهزة رقابية مستقلة، وهذه كلها أمور تكاد تكون غائبة في دولةٍ شرعية الحكم فيها تقوم على الوراثة والولاء لمشايخ الدين.
لكن، بعيدا عن الشعارات الاستهلاكية التي يريد ولي العهد الشاب أن يروّج بها حملته في
الوصول إلى الحكم، هناك ما هو واضح، وهو سعي الرجل إلى تثبيت سلطته من خلال إسكات الأصوات المعارضة له داخل بيت الأسرة المالكة، وكبح سلطة رجال الأعمال المتنفذين في عالم الاقتصاد والإعلام. وقبل ذلك، استهدفت الحملة بعض الدعاة المؤثرين لإعطاء الإشارة إلى أن "حملة التطهير" لن تستثني حتى رموز المؤسسة الدينية القوية.
يريد الأمير الشاب، من خلال حملته هذه، أن يرسل رسالة واضحة، تؤكد أنه أصبح الرجل القوي داخل المملكة، فهو ولي العهد، وابن الملك، ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع، يرأس مجلس الشؤون السياسية والأمنية ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي، ورئيس شركة أرامكو الأضخم عالميا من حيث القيمة السوقية. وهو بكل هذه المناصب التي يحتكرها يسيطر على قطاع الاقتصاد، ويتحكم في مفاصل الأجهزة الأمنية، ويدير المؤسسة العسكرية، إنه بمثابة الحاكم الفعلي في المملكة، يتمتع بسلطات مُطلقة داخل دولةٍ ذات نظام ملكي مطلق بامتياز.
يريد الأمير الشاب المتعطش إلى السلطة أن يحقق أكثر من هدف من حملته الجديدة، فبالإضافة إلى استهداف منافسيه وخصومه من الأمراء داخل الأسرة الحاكمة، فهو في حاجة ماسّة إلى مزيد من المال، لتغطية مصاريف حروبه المفتوحة في اليمن، وتلك التي يديرها بالوكالة في العراق وسورية، وأزمته المفتعلة مع قطر، ولا يستبعد أن يزج غدا بلاده في حرب شبيهة بـ "عاصفة الحزم" في لبنان ضد حزب الله، الذراع الثاني للوجود الإيراني في المنطقة إلى جانب "أنصار الله" في اليمن. كما أنه في حاجة إلى مزيد من المال، وخصوصا إلى السيولة، لتنفيذ مشاريعه الفرعونية الضخمة في إطار ما سميت "رؤية 2030".
وهو من وراء هذا كله يهدف إلى كسب شرعية جديدة من خارج حلقتي الحكم الأساسيتين في
النظام السعودي، أي مجلسي الأسرة وكبار العلماء، بحثا عن شرعية "شعبية"، تمهد له الطريق إلى العرش، وتوطد حكمه عندما سيخلف والده. ويتجلى بحث الأمير الشاب عن هذه الشرعية من خلال استهدافه، في حملاته "الترويجية"، عنصرين مهمين وأساسين داخل المجتمع السعودي، هما المرأة التي تمثل نصف المجتمع من حيث النوع، عندما بدأ بإعطائها بعض الحقوق، لكسبها إلى جانبه في حربه ضد المؤسسة الدينية الجامدة، والشباب الذي يمثل هو الآخر نصف المجتمع السعودي من حيث الفئة العمرية، وتعاني أغلبيته من البطالة. وقد لاقت الحملة ترحيبا كبيرا داخل أوساط هذين العنصرين الذين يتطلعون إلى تحديث مجتمعهم، وسئموا، في الوقت نفسه، من قوانين المنع التي كان كبار علماء الدين الرسميين يجدون لها مبرّرات في الشريعة، ويئسوا من الثراء الفاحش والنفوذ الكبير لكبار الأمراء ورجال الدولة ورجال الأعمال الذين كانوا دائما يتحصنون سواء وراء نسبهم أو نفوذهم أو مالهم من كل محاسبة أو عقاب.
لكن من شأن هذه "الحملات" غير محسوبة العواقب أن تثير حفيظة المعارضين داخل الأسرة، وفي الأوساط الدينية المحافظة، وداخل مؤسسة الجيش، وفي وسط كبار رجال الأعمال. كما أن تأثيرها قد يكون سلبيا على مناخ الاستثمار الذي مازال مبنيا على اقتصاد الريع والامتيازات.
كانت السلطة دائما في السعودية موضوع توافق كبير بين أبناء مؤسس المملكة، يتم تداول أمورها داخل "مجلس العائلة" الذي يضم كبار أفراد العائلة الحاكمة، وآل سعود والمؤسسة الدينية الممثلة في مجلس كبار العلماء. وباعتقاله أمراء بتهمة الفساد وتقديمهم للمحاكمة، وقبل ذلك زج دعاة وهابيين مشهورين، فإن الأمير محمد بن سلمان يزعزع أساس البنيان الذي قامت عليه مملكة آل سعود، وفي هذا خطورة كبيرة على طموحه، ومغامرة غير محسوبة العواقب على مستقبل نظام الحكم الذي قام دائما على الشرعيتين، العائلية والدينية.
ليست هذه الحملة سوى حلقة جديدة في سلسلة التطورات الدرامية المتلاحقة في السعودية التي بدأت مع الصعود الصاروخي لنجم محمد بن سلمان، وهو ما يدفع إلى طرح السؤال: السعودية إلى أين؟ فالأكيد أن الحملات من هذا القبيل ستستمر. وفي كل مرة، سيبدع الأمير الشاب في مفاجأة متتبعي مغامراته، في انتظار أن يؤول المُلك إليه. ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، فإن الأمير المجازف مستعد لكل المغامرات، بما في ذلك جر بلاده إلى حرب مفتوحة ومباشرة مع إيران، لحشد التعبئة الوطنية الداخلية، وتحفيز العقيدة السنية الدينية لمؤازرته. لكن مغامرةً من هذا النوع قد تزج المنطقة كلها وبالعالم في أتون حرب دينية مدمرة، تأتي على الأخضر واليابس.
ولو كانت السعودية بلداً ديمقراطياً يتم تداول السلطة فيها بالانتخابات، فإن شعار "محاربة الفساد" كان سيصلح لأن يكون عنوان حملة انتخابية ناجحة، لكن الحال أن بلاد الحرمين تعد اليوم من الدول القلائل التي مازال يحكمها نظامٌ تقليديٌّ، يقوم على تحالف مقدس ما بين مؤسستين تقليديتين، هما الأسرة الحاكمة، المتمثلة في نسل الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة، والمؤسسة الدينية الممثلة في المذهب الوهابي الذي أسسه محمد بن عبد الوهاب، ويقوم اقتصادها على الريع والامتيازات التي توزع طبقا لمعيار بيولوجي واحد، هو الانتماء إلى الأسرة المالكة.
لذلك، فإن الحديث عن "محاربة الفساد" داخل مملكة اقتصادها مبنيٌّ على الريع، والفساد ينخر كل مؤسسات الدولة فيها بدون استثناء، يبدو كمن يفسر الماء بالماء، لأن محاربة الفساد تقتضي وجود قضاء مستقل، ودولة مؤسسات قوية وأجهزة رقابية مستقلة، وهذه كلها أمور تكاد تكون غائبة في دولةٍ شرعية الحكم فيها تقوم على الوراثة والولاء لمشايخ الدين.
لكن، بعيدا عن الشعارات الاستهلاكية التي يريد ولي العهد الشاب أن يروّج بها حملته في
يريد الأمير الشاب، من خلال حملته هذه، أن يرسل رسالة واضحة، تؤكد أنه أصبح الرجل القوي داخل المملكة، فهو ولي العهد، وابن الملك، ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع، يرأس مجلس الشؤون السياسية والأمنية ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي، ورئيس شركة أرامكو الأضخم عالميا من حيث القيمة السوقية. وهو بكل هذه المناصب التي يحتكرها يسيطر على قطاع الاقتصاد، ويتحكم في مفاصل الأجهزة الأمنية، ويدير المؤسسة العسكرية، إنه بمثابة الحاكم الفعلي في المملكة، يتمتع بسلطات مُطلقة داخل دولةٍ ذات نظام ملكي مطلق بامتياز.
يريد الأمير الشاب المتعطش إلى السلطة أن يحقق أكثر من هدف من حملته الجديدة، فبالإضافة إلى استهداف منافسيه وخصومه من الأمراء داخل الأسرة الحاكمة، فهو في حاجة ماسّة إلى مزيد من المال، لتغطية مصاريف حروبه المفتوحة في اليمن، وتلك التي يديرها بالوكالة في العراق وسورية، وأزمته المفتعلة مع قطر، ولا يستبعد أن يزج غدا بلاده في حرب شبيهة بـ "عاصفة الحزم" في لبنان ضد حزب الله، الذراع الثاني للوجود الإيراني في المنطقة إلى جانب "أنصار الله" في اليمن. كما أنه في حاجة إلى مزيد من المال، وخصوصا إلى السيولة، لتنفيذ مشاريعه الفرعونية الضخمة في إطار ما سميت "رؤية 2030".
وهو من وراء هذا كله يهدف إلى كسب شرعية جديدة من خارج حلقتي الحكم الأساسيتين في
لكن من شأن هذه "الحملات" غير محسوبة العواقب أن تثير حفيظة المعارضين داخل الأسرة، وفي الأوساط الدينية المحافظة، وداخل مؤسسة الجيش، وفي وسط كبار رجال الأعمال. كما أن تأثيرها قد يكون سلبيا على مناخ الاستثمار الذي مازال مبنيا على اقتصاد الريع والامتيازات.
كانت السلطة دائما في السعودية موضوع توافق كبير بين أبناء مؤسس المملكة، يتم تداول أمورها داخل "مجلس العائلة" الذي يضم كبار أفراد العائلة الحاكمة، وآل سعود والمؤسسة الدينية الممثلة في مجلس كبار العلماء. وباعتقاله أمراء بتهمة الفساد وتقديمهم للمحاكمة، وقبل ذلك زج دعاة وهابيين مشهورين، فإن الأمير محمد بن سلمان يزعزع أساس البنيان الذي قامت عليه مملكة آل سعود، وفي هذا خطورة كبيرة على طموحه، ومغامرة غير محسوبة العواقب على مستقبل نظام الحكم الذي قام دائما على الشرعيتين، العائلية والدينية.
ليست هذه الحملة سوى حلقة جديدة في سلسلة التطورات الدرامية المتلاحقة في السعودية التي بدأت مع الصعود الصاروخي لنجم محمد بن سلمان، وهو ما يدفع إلى طرح السؤال: السعودية إلى أين؟ فالأكيد أن الحملات من هذا القبيل ستستمر. وفي كل مرة، سيبدع الأمير الشاب في مفاجأة متتبعي مغامراته، في انتظار أن يؤول المُلك إليه. ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، فإن الأمير المجازف مستعد لكل المغامرات، بما في ذلك جر بلاده إلى حرب مفتوحة ومباشرة مع إيران، لحشد التعبئة الوطنية الداخلية، وتحفيز العقيدة السنية الدينية لمؤازرته. لكن مغامرةً من هذا النوع قد تزج المنطقة كلها وبالعالم في أتون حرب دينية مدمرة، تأتي على الأخضر واليابس.