السرّ

17 مايو 2016
لوحة للفنانة السعودية نور هشام السيف (بإذن من الفنانة)
+ الخط -
ليس بإمكاني الاحتفاظ بكل شيء داخل ذاكرتي، لطالما خُيّل لي أنها أمام كمّ السنوات التي تُسمّى عمرًا لن تكون سوى أضيق من أن تستوعبها، وإن لم يكن مطلوباً أن تحتفظ بها كلّها، لكنها مهما انتقت من أحداث مهمة فقط أو مؤثرة، لا بدّ أن تفلت أشياء رغمًا عنا كان يجدر بها أن تبقى فننساها، وأشياء أخرى بقيت داخلها، كان يجدر بها أن تخرج. 
أشياء غير مهمة كثيرة علقت في ذاكرتي، ذاكرتي العجيبة، وعبثًا حاولت التخلص منها عبر نسيانها أو تجاهلها: إذ ما الذي يمكن أن يفعله سرّ أحمق داخلها؟. سرّ ليس لي أيضاً، وفوق ذلك هو بلا أهمية كبيرة ولا صغيرة، ما زلت حتى اليوم أحمله في ذاكرتي، أخبئه في وجداني، أنوء وأضيق أحيانًا بحمله، لكني حقًا لا أعرف ما عساي أفعل به.

تلك الليلة نفسها ما تزال قائمة في أعماقي، مثل نسيج عنكبوتي رهيف، رغم هشاشته ووهنه لا يتلاشَ أبدًا، ورغم ما يوحي به من استعداد للتقوّض هو أصلب مما تمنحه العين من انطباع عنه، هل علق بي هذا السرّ الدبق إلى الأبد؟ لا أعرف وأكاد أجزم أن صاحبته نفسها قد نسيته تماماً.

هذا السرّ يتعلق بعمّتي، كنت في الثالثة عشرة ربما عندما كانت قريبة من الثلاثين، وكثيرًا ما كنت أتظاهر بالنعاس الشديد عندما يكون علينا أن نعود إلى بيتنا أنا ووالداي وإخوتي بعد العشاء والسهر في بيت جدّي لأبي كل يوم سبت من كل أسبوع، أتظاهر أني نائمة لتصرخ جدتي بأبي أنني لن أبيت في بيت غريب، فيضطرّ على مضض أن يتركني هناك، ليعود لأخذي في الغد، كنت أختار النوم مع عمتي "حلومة" في غرفتها، رغم أنها ليست عمتي الوحيدة ولا أصغرهن لتكون أقرب لسنّي ولكن لسبب مبهم كنت أفضّل أن أكون بجانبها، ولسبب آخر لم تكن هي تتضايق من ذلك، بل أكثر من هذا كانت تتحدث إليّ كأني صديقتها التي من نفس عمرها ويشغلني الذي يمكن أن يشغلها في تلك السنّ، كالحبّ مثلًا أو الزواج.
أسمع لها بتركيز شديد وكأنني كنت أفهم تمامًا كل الذي تقوله، في الواقع لم يكن هذا حقيقيًا، فكثيرًا ما تبدو بعض كلماتها مثل الطلاسم بالنسبة إليّ، لكني أمام رغبتها في البوح وتفريغ همومها كنت أحجم عن إزعاجها بأسئلتي الغبية فأصمت، حتى لا يتبقّى في تلك الليالي سوى صوتها الرخيم ذاهبًا في الصمت بانسياب وتؤدة كأنه معزوفة رقيقة تمزّق خرس الظلام برأفة وحذر شديدين.

في تلك الليلة، أو ليلة السرّ سألتني عمتي أن أخمّن اسم الطفلة التي ستنجبها عندما يعود حبيبها من السويد ويتزوّجا، استدعيت في ذاكرتي كل أسماء البنات الجميلة والحديثة، أسماء صديقاتي وبعض بطلات الكرتون المفضلة عندي، خمنت كثيرًا ولم أفلح، كانت تضحك بسعادة وانتصار في كل مرة وتقول لي: لا.. ليس هذا.
لما عجزتُ أنا همست عمتي: "أميمة"، هُيِّئ لي رغم الظلمة الدامسة أني لمحتُ لمعة عينيها وهي تلفظ الاسم، ثم حذرتني أن لا أقوله لأحدٍ حتى لا يسرقه منها. قالت إنه اسم نادر ولا تريد أن يكثر، خصوصًا ضمن محيطنا العائليّ بالذات، من أجل ذلك طلبت أن يكون هذا الاسم سرّاً بيننا، ووافقتُ.

حبيب عمتي عاد بعد عامين من السويد، لكنه لم يتزوج "حلّومة"، لأنه عاد وفي يده شقراء سويدية قال إنها زوجته، توالت السنوات وطلب رجال كثر يدها، عندما يحدث وتوافق على أحدهم بعد الخطوبة سرعان ما تبدأ تحضيرات الزواج لكن شيئًا ما يحدث فجأة، فتُفسخ الخطبة، هكذا ظلت الحال عدة أعوام، نبدأ في التحضير لزواج "حلّومة"، حتى يأتينا خبر سيئ أنها تركت خطيبها أو هو تركها، كلما بدأت قصة وانتهت يحضرني اسم الطفلة، طفلة عمتي، الذي خبأته في بئر عميقة مثلما طلبت مني، كل مرة كنت أمنّي نفسي أنها ستتزوج وأرتاح من هذا العبء، وبمجرد أن تنفصل أعود لأتحسس حِملي الذي يجثو على ذاكرتي ويثقلها، وأتساءل عن وقته متى يحين وأتخلص منه. 

صرت في الثلاثين أنا بدوري، وتجاوزت عمتي "حلّومة" الخمسين، يقولون إن قطار الزواج قد فاتها الآن، إحدى بنات عمي قالت لي بحزن منذ أسابيع في التلفون إنها تخشى أن يكون مصيرها كمصير عمتي "حلومة": عانس، كثيرًا ما أسمع أمي تقول بأسف إن المؤلم حقا ليس عدم زواجها ولكن حرمانها من أن تكون أمّاً للأبد، وتؤكد أنها حتى لو تزوجت الآن، فقد انتهت قصة الأمومة بالنسبة إليها وأضحت مستحيلة في مثل عمرها، أما أنا فلا يعنيني شيء من كل هذا، ما يؤرقني شيء وحيد؛ الاسم، السرّ، أين أضعه، كيف أتلفه، ماذا يمكنني أن أفعل به الآن إذا كانت عمتي "حلومة" لن تُنجب أبداً؟

دلالات
المساهمون