في الأثناء، تتحوّل تبعات الحرب إلى ثيمة رئيسية في الكتابة الأدبية اليمنية اليوم، من ذلك أنه حينما أقيم "ملتقى اليمن تكتب" في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وقد تضمّن مسابقة أدبية شارك فيها تسعون قاصاً وقاصة من اليمن، همينت ثيمة الحرب على معظم النصوص المشاركة، كما يشير إلى ذلك الناقد الأدبي زياد القحم، عضو لجنة التحكيم في المسابقة.
يقول القحم في حديث إلى "العربي الجديد": "لقد تحوّلت القصص المكتوبة من أعمال تناقش هموم الناس وقضاياهم إلى قصص تدين الحرب وخرابها". ويضيف أن هذا التحوّل يأتي كـ"انعكاس سيّئ لأثر الحرب على نفسيات الكتّاب". من ناحية أخرى، يشير الناقد اليمني إلى عامل آخر يعيق العملية الإبداعية، حيث يرى أن "محاولات الاستقطاب تؤثر في نفسيات الكتّاب، وكثيراً ما يجدون الأمر موجعاً حينما يستقطبهم ويتسلط عليهم من هو أقل منهم ثقافة".
من جانبه، يقول الروائي علي المقري لـ"العربي الجديد" إنه "لم يعد هناك من فسحة للكتّاب ليبدعوا وسط أجواء من القصف والقذائف وانعدام الماء والكهرباء ومتطلبات العيش من رواتب وتوفر ضرورات الحياة وغيرها، إذ كيف يستطيعون أن يكتبوا وهم في هذه الحالة".
لا يستثني المقري هنا أولئك الذين أتيحت لهم الفرصة للخروج من اليمن أثناء الحرب - وهو أحدهم - إذ يقول إنهم "ما زالوا يعانون من آثار تلك المشاكل التي عاشوها، فالمعاناة، في أجواء الحروب، لا تخلق الإبداع وإنما تخنقه"، وهذا يُشعره بالأسف لأن "صوت الرصاص ارتفع عالياً وصارت السلطة للصاروخ والمدفعية، بينما جرى تدمير كل ما أنجز من مشاريع حديثة، وأصبحت الكتابة تمضي وسط مخاطر ومخاوف من انعدام الحرية، بل الخوف من انعدام الحق في الحياة".
"عندما تنفجر الحرب يتنحّى الكتاب ويحضر الجنرالات"، هكذا يعلّق الروائي اليمني المقيم في ألمانيا، مروان الغفوري، ويضيف لـ"العربي الجديد" أن "في المسألة اليمنية ثمة كاتبان: أحدهما ينادي باستمرار الحرب بوصفها حرب تحرير، وكاتب آخر ينادي بإيقافها بوصفها حرباً أهلية. لا يخبرنا الأول متى ستنتهي الحرب، ولا يقول لنا الثاني كيف ستتوقف!".
ويرى الغفوري أن "ثمة مساحة ضيقة يمكن للكاتب أن يتحرّك من خلالها في القصّة اليمنية، ففي مطلع الحرب كان الخصوم متنبهين للخطورة التي تنطوي عليها الكتابة، ومع الأيام فقد الكتّاب الاهتمام بهم، وها هم يعيشون معزولين في جزرهم غير قادرين على إحداث أي قدر من التأثير في مجريات الحرب والسلام".
قبل وقت ليس بعيداً، أراد الغفوري أن ينجز دراسة حول الرواية والحرب. يقول لـ"العربي الجديد": "في طريقي لدراسة الموضوع عرفتُ أن هناك ما يقارب 820 رواية أساسية في آداب العالم حول الحرب"، فهذه الأخيرة تمثل في نظر صاحب "طريق الحوت" أحد محفّزات إنتاج الرواية، كما أن الرواية قد تشارك في الحرب كما هو الحال مع "كوخ العم توم" والحرب الأهلية الأميركية.
ويظل موضوع التناول الأدبي للحرب والأحداث المشتعلة في اليمن موضوعاً سجالياً، فبينما هناك من يرفض أن يقتصر دور الروايات والقصص الحديثة على توثيق ما يحدث، فإن بعض الكُتّاب والنقاد يستنكر أن يكتب أحدهم عن مواضيع أخرى بينما تعيش بلاده حرباً طاحنة.
كثيراً ما تأتي الكتابة الإبداعية متأخرة زمنياً عن الحرب، وفي هذا السياق يرى الغفوري أن المستقبل لرواية الحرب في بلاده، مستشهداً هنا بتجارب مثل تولستوي وهمنغواي. ينظر الغفوري إلى المسألة بشيء من الإيجابية، حيث يرى أن "المجتمع اليمني سيخرج من الحرب جائعاً إلى الإبداع، ولن يستجيب لذلك "الجوع" سوى الانفجار الروائي لمرحلة ما بعد الحرب". ويتفق معه المقري قائلاً: "هناك كتابات قادمة ومهمة ستأتي رغم كل هذا الخراب، وستكون شاهدة على الخراب نفسه".
من زاوية أخرى، ترى الكاتبة انتصار السري أن الكتابة "مستمرة ومزدهرة في اليمن"؛ وهي هنا تستند إلى كمية الإصدارات لمبدعي اليمن في الداخل والخارج منذ بدء الحرب، بالإضافة إلى مشاركتهم في ملتقيات عربية. تؤمن السري أن الإصدارات التي تظهر كافية لتضمن مستقبل الكتابة.
نفس الكمية من الأعمال تبدو لعلي المقري "شحيحة، فهي في الغالب من تأليف قلة من الأدباء الذين استطاعوا أن يصمدوا وكتبوا بعض الإنتاجات الأدبية لكن في الغالب أثرت الحرب في معظمهم فإلى جانب انعدام الحريات هناك مشاكل في عملية النشر وانعدام وصول الكتب الحديثة إلى اليمن".
من الأعمال الأدبية التي يمكن أن نحصيها خلال فترة الحرب، والتي توثّق لها ولواقع اليمن اليوم، لنا أن نذكر المجموعة القصصية "الرجاء عدم القصف" (دار أروقة، القاهرة 2018) للكاتب اليمني لطف الصراري، فيما لا تزال رواية "الحب في زمن الكلاشنكوف" لـ عبدالله عباس الإرياني تحت الطبع. كما صدرت لوجدي الأهدل مجموعتان قصصيّتان هما "ناس شارع المطاعم" و"وادي الضجوج" إضافة إلى رواية بعنوان "أرض المؤامرات السعيدة"، وصدرت لكاتب القصة حامد الفقيه مجموعة قصصية بعنوان "أغنية لأمي وثلاث حكايات للعابرين".
هكذا، لم تمرّ الحرب على الكتابة الأدبية في اليمن إلا وهي تترك خدوشاً عميقة فيها، ومهما كان تعدّد الإصدارات فإنها بلا شك قد أعاقت عدداً أكبر من الإنتاجات الإبداعية المحتملة، وخلدت في أذهان المبدعين كمية من المشاعر تجعلهم ينتقلون من الكتابة المعتمدة على الخيال والفنتازيا إلى الواقعية المفرطة لتمثيل زمن الحرب بعيداً عن الاصطفافات أو تلك المقولات التي تؤمن بأن الأدب فسحة للمتعة والجمال فحسب. لكن، وعلى واقعيّته، فإن السرد يمثل اليوم نقطة النور التي تشير إلى الأمل بيمن جديد.