السرديةُ الإسرائيليةُ إلى الباب المسدود

28 مايو 2018
+ الخط -
لا تختلف مذبحةُ غزة أخيرا، في وحشيتها، عما سبقها من جرائم نفذها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني سبعين عاما. وفيما يعكس عدد الشهداء الذين سقطوا في هذه المذبحة ميزان القوى الذي يميل لصالح جيش الاحتلال، إلا أنه يحيل على الأزمة البنيوية التي تعيشها السردية الإسرائيلية، على الرغم من كل ما أنجزته عبر شبكات نفوذها التي تخترق مساحات غير قليلة في السياسة الدولية.
حسمت إسرائيل معظم المواجهات العسكرية التي خاضتها ضد الجيوش العربية، ويميل ميزان القوى الاستراتيجي لصالحها، وتدعمها القوى الغربية الكبرى بالمال والسلاح، وتُعد قوةً إقليمية مؤثرة في المنطقة. وتصب المتغيرات التي تشهدها المنطقة العربية في مصلحتها، بعد أن عصفت الفوضى والحروب الأهلية بأكثر من بلد عربي. بل أكثر من ذلك، استطاعت إسرائيل أن تحقق اختراقا سياسيا دالا، وتفتح الباب أمام تشكُّل محور جديد في المنطقة يتألف، إضافة إليها، من السعودية والإمارات والبحرين والولايات المتحدة. وهو محور قد يخلط الأوراق، إذا ما قُيض له الذهاب بعيدا، وانتقاله إلى طور التحالف الاستراتيجي الصريح، خصوصا في ضوء السياسة الحالية للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وما يقوم به من جهود، ظاهرة وخفية، لتمرير ما تعرف بصفقة القرن التي تستهدف التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، عبر مفاتيحها الأساسية، وأبرزها مدينة القدس بكل رمزيتها.
إذن، ما الذي يدفع صناع القرار في الكيان الصهيوني إلى القيام بهذه المذبحة الُمروعة؟ وبقدر ما يبدو السؤال بسيطا، بقدر ما يبدو مفتوحا على أسئلةٍ أخرى تحيل، في معظمها، على الجذور العميقة للصراع، والتي فشل المشروع الصهيوني في اقتلاعها، أو على الأقل الالتفاف عليها.
وقد كشفت مسيرات العودة الكبرى إخفاقَ هذا الكيان في فك الارتباط الوجداني بين الأراضي التي احتلها عام 1948 وتلك التي احتلها في 1967، فهذه المسيرات ليست إلا استدعاء لمفتاح آخر من مفاتيح القضية، لا يقل أهمية عن القدس، وهو المتعلق بحق العودة لمن هُجروا غصبا من ديارهم إبّان النكبة، ويرفض أبناؤهم وأحفادهم، في الداخل والشتات، التنازل عن حقهم في العودة إلى وطنهم.
لم تكترث هذه المسيرات للمتغيرات التي تعصف بالمنطقة العربية، ولا للانقسام الفلسطيني المتواصل بين حركتي فتح وحماس، ولا للحصار المفروض على قطاع غزة، ولا لغطرسة ترامب. كانت رسالة المسيرات واضحةً لا لبس فيها: الفلسطينيون لن يتنازلوا عن حقوقهم التاريخية، وإذا كان ميزان القوى الإقليمي والدولي لا يمنحهم أي هامش لأخذ ولو جزءا من هذه الحقوق، ففي وسعهم، على الأقل، إيصال صوتهم إلى العالم.
أعادت هذه المسيرات إلى الواجهة المشكلة الفلسطينية في جذورها التاريخية بعيدا عما تراكم طوال العقود الماضية من مؤتمرات وتوافقات واتفاقات بائسة، أخفق النظام الدولي في تحويلها إلى تسوية عادلة وشاملة، على الرغم مما تضمنته من انحياز صارخ لصالح الصهاينة، فافتتاح المقر الجديد للسفارة الأميركية في القدس ليس إلا محاولة لفرض الأمر الواقع بتغطية عربية رسمية واسعة، الشيء الذي تعتبره السرديةُ الإسرائيلية اعترافا بها، وتسويقا عربيا ودوليا لمضامينها التاريخية والدينية المعلومة. لكن هذه المسيرات أربكت ما ظهر وما بطن من ترتيبات حول الخطوة الأميركية.
يكشفُ سقوط عشرات الشهداء والجرحى في غزة الأزمة العميقة لهذه السردية، فالكيان الصهيوني، بسبب عقيدته السياسية والعسكرية وطبيعته الاستيطانية، غير قادر على مواجهة إصرار الشعب الفلسطيني على نيل حقوقه بغير القتل الممنهج، والاغتيالات، والمذابح الجماعية. وإذا كان هذا دأبه منذ سبعين عاما، فالوضع الآن بدأ يختلف، ليس بسبب تعديل في ميزان القوى، أو تحول في موقف النظام الرسمي العربي. ولكن بسبب متغيرات تقع على الجانب الآخر من النظام الدولي، حيث الرأي العام المسنود بسلطة وسائل التواصل الاجتماعي العابرة للحدود والقارات والانتماءات.
هناك موجة عداء متنامية داخل قطاعٍ غير هين من هذا الرأي العام في الغرب، لكنها لا تفصح عن نفسها بسبب قيودٍ تفرضها تشريعات معاداة السامية التي تستثمرها إسرائيل بشكل مدروس،
لكنها تعبر عن نفسها من خلال واجهات أخرى، أبرزها حملات مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية، سيما القادمة من المستوطنات. تدرك إسرائيل ذلك، وتدرك أيضا أنه سيكون من الصعب عليها الاستمرار، مستقبلا، في استخلاص العائدات السياسية ذاتها مما حدث لليهود خلال الحرب العالمية الثانية.
يجعل ذلك كله الصهاينة في مواجهة مفتوحة مع لاوعيهم السياسي بكل الاشتباكات الحاصلة فيه بشان التاريخ والأرض والشعب المختار. وهي المواجهة التي تحيل، بشكل مرعب، على فكرة الزوال المعلومة، الأمر الذي يدفع الصراع إلى منعرجاتٍ لا تروق، بالتأكيد، من صاروا يرون في فلسطين ''عبئا'' عربيا ثقيلا، يجب التخلص منه بأي طريقة، وإن كان من خلال جريمة حرب وحشية، لم يخجل وزير الخارجية البحريني من توصيفها حقا إسرائيليا في الدفاع عن النفس.
ستُضاف مذبحة غزة أخيرا إلى قائمة ما اقترفته إسرائيل من جرائم وحشية ومُروعة بحق الشعب الفلسطيني في عقود طويلة، ولن يكون هناك، بالتأكيد، رد فعل عربي أو دولي رادع عليها لأسباب معروفة، وما يُلاك بشأن دعوات جراء تحقيق دولي ليس إلا ضحكا على الذقون واستهتارا بأرواح من سقطوا شهداء في المذبحة. لكن ما حدث في غزة يطرح، بقوة، المأزق الذي تواجهه السردية الإسرائيلية في إعادة جدولة الثوابت التاريخية والوطنية الفلسطينية.