السجل الأسود للقمع في مصر: التعاطي مع الشعب كعدوّ

29 يونيو 2020
خلال تظاهرة معارضة للسيسي في برلين (أود أندرسن/فرانس برس)
+ الخط -
يمكن اعتبار مشهد محاصرة الأمن لنقابة الأطباء المصريين يوم السبت الماضي قبيل مؤتمر صحافي للرد على تصريحات واتهامات وجهها رئيس الوزراء مصطفى مدبولي للأطباء، رمزاً ودالاً بامتياز على سياسة النظام في تأميم مساحات المجال العام، بالطريقة نفسها التي يتم بها منع التظاهر والتجمعات المعارضة في الشارع، والقائمة على الحشد الكثيف لعناصر الأمن في الميادين والشوارع، وبالأسلوب نفسه الذي يتم به منع ظهور الأصوات المعارضة في وسائل الإعلام، بالحشد الكثيف للخطاب الإعلامي الموالي والإشادة بالإنجازات. فمع التحكم الكامل في وسائل الإعلام المحلية، والتوسّع في الرقابة على المطبوعات، وتحريك قضايا عديدة وسريعة باستخدام القوانين الجديدة المتعلقة بمراقبة الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، تمكّن النظام المصري من تجريف أرضية المعارضة في الداخل. وهذه الأيام، يمرّ عام على حبس مجموعة مكونة من معارضين، أطلق عليها إعلامياً "خلية الأمل"، إذ زُج بأعضائها في السجون، مصحوبين بمجموعة من الاتهامات المعلبة، والتي تتقدمها تهمة "التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين لإحداث اضطرابات سياسية في البلاد"، وهي التهمة المستحيلة في ظلّ الخلافات السياسية الكبيرة بين أفراد المجموعة والجماعة، وفي مقدمتهم زياد العليمي، أحد أعضاء ائتلاف شباب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، والذي كانت قبة البرلمان المصري شاهدة على مدى معارضته لحكم جماعة "الإخوان". بالإضافة إلى حسام مؤنس، والذي كان بمثابة أحد المتحدثين باسم "جبهة الإنقاذ"، التي دعت إلى تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013، بالإضافة إلى الصحافي اليساري هشام فؤاد. ثمّ انضم إلى هؤلاء لاحقاً الصحافي خالد داود الذي كان المتحدث الإعلامي باسم "جبهة الإنقاذ" المعارضة عام 2013.

وقبل ذلك زجّ النظام بمجموعة أخرى من أبرز وجوه 30 يونيو إلى السجون، ولاحقاً تمّ إخلاء سبيل بعضهم بتدابير احترازية، ليظلوا في منازلهم رهن الإقامة الجبرية. وكان أبرز هؤلاء مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير معصوم مرزوق، والأكاديمي يحيى القزاز الذي كان من أشد المعارضين لحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، والخبير الاقتصادي ووكيل مؤسسي حزب "التيار الشعبي" رائد سلامة، لاتهامهم في القضية رقم 1305 لسنة 2018 حصر أمن دولة عليا (مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، وتلقي تمويل بغرض إرهابي). فضلاً عن قضايا أخرى شملت آخرين مثل الناشط السياسي المؤيد للسيسي سابقاً حازم عبد العظيم والذي اعتقل بعد تقديمه شهادة لكيفية تشكيل البرلمان بواسطة المخابرات وإعلانه أنّ مصر تعرضت لأكبر عملية خداع سياسي، والأكاديمي المعروف حسن نافعة بسبب ظهوره في برامج تنتقد النظام، والناشط السياسي شادي الغزالي حرب وآخرين يصعب حصرهم في سطور قليلة.

ويعمد النظام تحديداً إلى التنكيل بالنشطاء البارزين ذوي الشعبية في الأوساط اليسارية، والذين كانوا من عناصر التحريك الواضحة للشارع وأصحاب النقد اللاذع للحكم العسكري، مثل الناشط علاء عبد الفتاح الذي قضى بضعة أسابيع فقط حراً منذ تولي السيسي السلطة، وتتعرّض أسرته للتنكيل الممنهج بسبب إصرارها على انتزاع حقوقه، وكذلك الناشط أحمد دومة الذي كان معروفاً بمعارضته الشديدة للإخوان، ومجموعة من مؤسسي حركة "6 إبريل".

ولم يشفع لرئيس حزب "مصر القوية"، عبد المنعم أبو الفتوح، وهو المرشح الرئاسي الحاصل على 4 ملايين صوت في انتخابات الرئاسة في العام 2012، تأييده لدعوة التظاهر في 30 يونيو، من خارج تحالف "جبهة الإنقاذ" وقتها. فبعد سنوات من التضييق والتهميش العائد لتخوف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الشديد منه ووصفه بـ"الإخواني... اللي كان هيعلقنا في المشانق" في التسجيل المسرب الشهير له من حواره مع الصحافي ياسر رزق عام 2013، تم اصطياد أبو الفتوح بمجموعة من التهم الفضفاضة في فبراير/شباط 2018. إذ ألقت أجهزة الأمن المصرية القبض على أبو الفتوح من منزله في منطقة التجمع الخامس في القاهرة الجديدة، عقب عودته من زيارة لبريطانيا، شهدت إجراءه مجموعة من اللقاءات التلفزيونية التي هاجم فيها السيسي، متهماً إياه بقتل الحياة السياسية في مصر والتنكيل بالمعارضين، وتوريط الجيش في الحياة المدنية. ولم تلتفت السلطات المصرية للنداءات المتكررة من المنظمات الحقوقية، وأسرة أبو الفتوح بإخلاء سبيله أو تقديم الرعاية الصحية اللازمة له، إذ يعاني من أمراض قاتلة.

وإلى جانب تلك المجموعات التي يمكن وصفها بأنها كانت جزءاً من مشهد 30 يونيو، هناك عدد غير معلوم من المصريين المعتقلين في سجون السيسي بتهم الانتماء لجماعات محظورة وإرهابية، معظمهم من "الإخوان المسلمين" ومؤيديهم. وعلى الرغم من قرارات العفو المتتابعة التي زاد عدد المستفيدين منها أخيراً ضمن خطة تخفيض أعداد السجناء بسبب جائحة كورونا، إلا أنّ التقديرات الحقوقية تشير إلى استمرار اعتقال نحو 40 ألف شخص بتهم ذات طبيعة سياسية.

ولأنّ السيسي يؤسس "دولة تانية" على حدّ تعبيره، شهد عهده توسعاً في استخدام الأدوات القمعية لقهر المعارضين، إذ باتت السلطة تستخدم سلاح الحبس الاحتياطي كعقوبة وليس كإجراء احترازي، كما حدث مع معظم الأسماء المذكورة أعلاه، ونحو 1700 شخص رصد محامون أنهم تخطّوا المدة القصوى للحبس الاحتياطي وهي سنتان. علماً بأنّ القانون يستثني فقط من قاعدة المدة القصوى المحبوسين الذين سبق الحكم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد عند نظر قرارات حبسهم أمام محكمة النقض أو الإعادة. وبذلك، تحوّل الحبس الاحتياطي من إجراء تحفظي وتدبير مؤقت يهدف في الأساس لمنع التأثير على مجريات القضية أو هروب المتهم، إلى عقوبة بحد ذاتها. فعلى سبيل المثال استمر المتهمون في قضية اعتصام رابعة العدوية محبوسين لأكثر من 5 سنوات ونصف احتياطياً حتى مارس/آذار 2019، واستمر الباحث إسماعيل الإسكندراني محبوساً 3 سنوات قبل الحكم عليه في قضية عسكرية في مايو/أيار 2018، والأمثلة عديدة في هذا السياق.

أمّا الأدوات الأخرى التي توسّع النظام في استخدامها، فهي الإدراج على قوائم الإرهاب والمنع من التصرف في الأموال والتحفظ عليها ومصادرتها في بعض الأحيان، وكان الهدف في بداية الأمر من هذا الإجراء التنكيل فقط بجماعة "الإخوان" وعناصرها وامتداداتها الاجتماعية، لكن تمّ استخدامه لاحقاً ضدّ النشطاء الحقوقيين البارزين ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات سياسية أخرى.

ووجه النظام المصري في أعقاب تظاهرات 20 سبتمبر/أيلول الماضي التي دعا لها الممثل ورجل الأعمال محمد علي، ضربة قاسية للمجال العام الذي كان منغلقاً في الأساس، وذلك بشنّ حملات منظمة تارة، وعشوائية تارة أخرى للقبض على المواطنين ممن شاركوا في التظاهرات، وقد تخطى عدد من تم حصرهم بعد إخلاء سبيلهم 1800 شخص. كما استغلّ النظام الحدث للادعاء بتعرض مصر لحروب إعلامية ودعائية من الخارج، فزاد عدد المواقع الإلكترونية الإعلامية والصفحات المحجوبة إلى 549 حتى الآن، بحسب إحصاء لمؤسسة "حرية الفكر والتعبير"، في قفزة كبيرة بعدما كان العدد 21 عام 2017 و74 العام الماضي. وتمّ إيقاف العديد من كتاب الرأي عن نشر مقالاتهم. كما أحكمت المخابرات سيطرتها على وسائل الإعلام على مستوى الإدارة والمحتوى، بعد الاستحواذ على معظمها خلال السنوات الثلاث الماضية.

وأدى فشل النظام في جني الأرباح المالية والسياسية المتوقعة من احتكار الإنتاج الفني والإعلامي، فضلاً عن انهيار الإعلام الحكومي من إذاعة وتلفزيون وصحافة قومية، إلى محاولة المخابرات اتباع خطط تقشفية قائمة على تسريح أعداد من العمال وتخفيض الرواتب والاستغناء عن بعض الإعلاميين وتدوير البعض الآخر بين القنوات، سعياً لإيجاد حلول بعد فشل خطة اجتذاب رجال الأعمال ليكونوا شركاء في هذا المجال. وفي الوقت نفسه، تم إنفاق مزيد من الأموال على الوسائل التقنية، خصوصاً في القنوات الفضائية، للادّعاء بتحسين المستوى، وكذلك إتاحة نوافذ من داخل النظام نفسه لانتقاد المسؤولين، في إطار الايحاء بتغيّر في السياسة الدعائية للنظام وتحت ستار الترويج لانفراجة سياسية، من دون الابتعاد عن التعليمات العامة بشأن التعامل مع المعارضة ومشاريع السيسي وغيرها من الخطوط الحمراء.

واستكمالاً لهذه السياسة، يحاول النظام حالياً تعيين أعضاء البرلمان المقبل، قبل إتاحة الفرصة للمواطنين لانتخابهم، في تكرار أكثر فجاجة لما حدث عند تشكيل مجلس النواب الحالي. وبدلاً من اللقاءات السرية التي كانت تعقد بإشراف المخابرات، باتت اللقاءات التنسيقية علنية بإدارة صورية من حزب "مستقبل وطن" التابع للمخابرات، والذي يعتمد عليه السيسي، على أمل أن يكون في طليعة ظهيره السياسي الذي لم يتشكل أبداً، ويبدو أنه لن يحدث، لكن في الوقت نفسه، لا يجد بداً من التعامل والتلاعب بالعمل الحزبي، لاحتواء الطاقات المالية والبشرية التي من الممكن أن تلعب دوراً ضده لمصلحة أي منافس يظهر مستقبلاً.

المساهمون