الزواري والصراع مع الاحتلال: عوامل إضافية دفعت إسرائيل لاغتياله

27 ديسمبر 2016
خرجت أعداد كبيرة لتكريم الزواري في صفاقس (العربي الجديد)
+ الخط -
استطاع المهندس التونسي محمد الزواري أن يُخمد صراعات التونسيين ولو إلى حين، فاجتمعوا بأعداد كبيرة من كل المدن التونسية في صفاقس يوم السبت الماضي، أمام "باب الديوان"، لتكريم الشهيد في رسالة واضحة إلى قاتليه بأن موته في الحرب مع إسرائيل، تحوّل إلى شأن يهم الملايين، ووحّد الأحزاب المتناحرة، وارتفع فوق صراع الأيديولوجيا وتفاصيل الاصطفاف السياسي. ورفعت الحشود الكبيرة علمين فقط هما علم تونس وفلسطين، كما حمل أطفال لافتات كُتب عليها "فلسطين عربية... لا بديل عن البندقية". والزواري صرف جزءاً كبيراً من وقته لتعليم الصغار كيف تُوجّه الطائرات، وفي صمته وكتمانه للتجارب التي خاضها في لبنان وغزة، كان يسارع الوقت في تعليم الأطفال والشباب، لعل منهم من يكمل التجربة التي أسسها، وكانت سبب اغتياله المباشر والحقيقي.

وعلى الرغم من كل ما قيل عن اغتيال الزواري بسبب دوره في دعم قدرات "كتائب القسّام" العسكرية، يبقى السؤال مطروحاً وبشدة: لماذا قتلت إسرائيل الزواري؟ أي ما الذي يمثّله الرجل تحديداً؟ وما هي التهديدات التي حملها تجاه واحدة من أكبر القوى العسكرية في العالم؟ ولماذا تبجحت وسائل الإعلام الإسرائيلية بهذه العملية، وسارعت إلى نشرها ساعات بعد الاغتيال؟ أسئلة كثيرة ظلت مبهمة، ولم يتسرب منها في التصريحات الفلسطينية والتونسية إلا القليل والعام، وهو ما يفرض بالتأكيد إعادة طرح السؤال من جديد، ومحاولة البحث عن بعض مفاتيح فهم هذه العملية وأبعادها في الصراع العربي الإسرائيلي.

مدينة صفاقس، التي نهضت من جديد مساء السبت لتكرم شهيدها، حملت أولى هذه الإجابات، ولعلها تفتح الطريق لفهم أبعاد هذه العملية. يقول مهندسون عرفوا الزواري وناشطون وسياسيون تونسيون لـ"العربي الجديد" أن تكبّد إسرائيل مجهود اغتياله والإعداد للعملية على امتداد ثلاث سنوات كاملة (وهو ما أكده وزير الداخلية التونسية الهادي مجدوب) يعكس أهمية الزواري في الصراع، وهو ما دفع الاحتلال الإسرائيلي لتحييده نهائياً عن أرض المعركة.

ويلفتون إلى أن نقمة إسرائيل واستهدافها للكفاءات العلمية العربية، وللمهندسين بالذات، ليست جديدة، ويذكّرون باغتيال يحيى عيّاش، المعروف باسم "المهندس" وخبير المُتفجرات في حركة "حماس"، الذي تم اغتياله في 5 يناير/كانون الثاني 1996 وهو داخل شقة شمال قطاع غزة، عبر دسّ مواد شديدة الانفجار في هاتفه. وعياش كان سبباً في مقتل عشرات الإسرائيليين وإصابة أعداد كبيرة منهم تجاوزت المئات بحسب التقارير، ولذلك تحوّل إلى هدف إسرائيلي ذي أولوية قصوى. وبالعودة إلى الزواري، يكشف أحد أساتذته في الجامعة لـ"العربي الجديد"، أنه كان شديد الذكاء وكتوماً جداً، ولم يكمل دراسته وغادر مع أحد أصدقائه بسبب التضييقات والملاحقة المعروفة، ولكنه عاد إلى تونس بعد الثورة واستكمل شهادته في الهندسة، ولذلك تم تكريمه في سنة 2013، بسبب هذا الإصرار.

ورداً على سؤال حول طبيعة تكنولوجيا الطائرات من دون طيار، التي أشرف عليها الزواري، وهي متوفرة اليوم في كل مكان، وليس هناك من سبب ظاهر تمثّله لاغتيال الزواري كما يروج البعض، يؤكد هذا الأستاذ، أن الزواري لم يكن يشتري هذه التكنولوجيا، بل يملكها ويتحكم فيها، وهي تكنولوجيا صناعة الطائرة وتقنية تحليقها والتحكم فيها، والأهم من كل ذلك أنه طوّرها، فكيف بهذه التكنولوجيا وهي بيد "حماس"؟ ويلفت إلى أن تطوير هذه التكنولوجيا وتوسيعها يمكن أن يشمل أهدافاً مدنية وعسكرية، لأن طائرات الزواري يمكن أن تكون مفيدة جداً في الاستعمالات المدنية المختلفة، كالزراعة والخرائط، وأيضاً العسكرية الهامة، وهو ما أكدته قيادات "كتائب القسّام" من دون أن تخوض في تفاصيله، إذ ذكرت في تصريحات صحافية مختلفة أن "حماس تعرف ما قدّمه الشهيد في معاركها الأخيرة مع إسرائيل".
ويقول قيادي حزبي كبير شارك في مسيرة صفاقس، لـ"العربي الجديد"، إن تكنولوجيا الطائرات التي أشرف عليها الزواري، أزعجت إسرائيل بشكل لافت، لأنها كانت قادرة على تغيير موازين المعركة، بين مجموعات من أفراد لا إمكانيات لها، وجيش من أغنى الجيوش في العالم، بما يشكك باستمرار في الحسم النهائي الإسرائيلي العسكري، ويثبت أن الجيوش الصغيرة بإمكانها أيضاً أن تلحق بالعدو ضربات موجعة، تُبقي على الصراع مفتوحاً باستمرار.
ويشير إلى أن مساهمة الزواري وكل الفريق الفلسطيني، لم تكن مقتصرة كما يبدو على صناعة هذه الطائرات فقط، ولكنها قد تكون نجحت أيضاً من وضع تقنيات استهداف الطائرات الإسرائيلية، وهذا أمر له أهمية استراتيجية في المعركة.


يُذكر أن قناة الأقصى، التابعة لحركة "حماس" كانت قد بثت خلال الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014 صوراً لطائرة إسرائيلية من دون طيار قالت إن المقاومة أسقطتها في غزة. وكان الجيش الإسرائيلي أعلن أيضاً في 18 يوليو/تموز 2014، أنه أسقط طائرة من دون طيار تابعة لـ"كتائب القسام". فيما أعلنت الكتائب وقتها أنها أرسلت طائرة من دون طيار في مهمة هجومية إلى "عمق" إسرائيل، وقالت على موقعها الإلكتروني: "نعلن إرسال طائرة أبابيل 1 في مهمة هجومية في عمق الكيان الصهيوني"، من دون أن تدلي بمزيد من التفاصيل. وكانت "القسام" قد كشفت في 14 يوليو/تموز من العام نفسه أن مهندسيها تمكنوا من تصنيع طائرات من دون طيار تحمل اسم "أبابيل 1"، وتم إنتاج ثلاثة نماذج أولية منها. وذكرت أن نماذج الطائرات التي أنتجتها هي الطائرة "أيه 1 أيه" وهي ذات مهام "استطلاعية"، والطائرة "بي 1 أيه" وهي ذات مهام "هجومية-إلقاء"، وطائرة "سي 1 أيه" وهي ذات مهام "هجومية-انتحارية".

ولم تتوقف حرب الطائرات بين الطرفين منذ ذلك الحين، واستمرت حتى العام الحالي، إذ أعلنت القوات الإسرائيلية أنها أسقطت طائرات من دون طيار أطلقتها "حماس" من قطاع غزة. كما أن تكنولوجيا الطائرات من دون طيار لم تقتصر على "حماس"، وإنما ذكرت تقارير إعلامية عن امتلاك "حزب الله" اللبناني لهذه التكنولوجيا، وقيامه بإرسال هذه الطائرات فوق مواقع إسرائيلية، ونجحت إسرائيل في إسقاط إحداها فيما فشلت في ملاحقة اخرى.
وكشفت تعزية عائلة الزواري، من مسؤول العلاقات العربية في "حزب الله" حسن عز الدين، باسم قيادة الحزب، تعاون الزواري مع عدو آخر لإسرائيل، هو "حزب الله"، إذ اعتبر عز الدين، "أنّ الزواري هو شهيد المقاومة وشهيد الأمة العربية والإسلامية". ويمثل انتشار هذه التكنولوجيا وما قد يلحق بها، لدى عدويين لإسرائيل، مصدر قلق كبير لها.
ويلفت المسؤول الحزبي التونسي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن انزعاج إسرائيل لم يكن فقط بسبب تكنولوجيا الطيران، وإنما لاستشعارها أيضاً خطراً كبيراً بسبب انكباب الزواري على المجال البحري بعد الجوي، وتقدّمه خطوات كبيرة في صناعة غواصات مسيّرة عن بعد. يُذكر انه تم الكشف في ملتقى علمي دولي في مدينة الحمامات التونسية، خلال تأبين الزواري، عن مشروع الغواصة الذي كان بصدد إعداده منذ ثلاث سنوات، والذي بات جاهزاً بنسبة 90 في المائة. ونقلت إذاعة تونسية عن أحد المشاركين في الملتقى، أن الزواري كان من المنتظر أن يُقدّم 4 أوراق علمية حول مشروع قام بخطوات كبيرة منه خلال 3 سنوات عمل. وأشار المصدر نفسه إلى ان الزواري توصّل لتصنيع نموذج غواصة في المدرسة الوطنية للمهندسين في صفاقس، العام الماضي، وقام بتجربتها في نموذج تطبيقي مصغر.
وبحسب المسؤول التونسي، فإن هذا الأمر كفيل بتغيير بعض موازين القوى بشكل لافت، إذ تستطيع هذه التكنولوجيا إذا نجحت أن تفجّر قوارب وبواخر، ويمكن حتى أن تنجح في فرض حصار بحري جزئي على بعض الموانئ التي تشرف عليها إسرائيل، وفي أقلّ الحالات، فإنها قادرة على تشتيت الجهد الإسرائيلي من ناحية، ومنح "حماس" تقدّماً معنوياً هاماً وخيارات عسكرية جديدة من ناحية أخرى. ويؤكد المسؤول أن كل هذه العوامل قد تفسّر عملية الاغتيال وتكشف أهمية الزواري في هذا الصراع.

كذلك يبرز عامل آخر قد يكون دفع الاحتلال الإسرائيلي لاغتيال الزواري، يتعلق بشخصيته، فهو تونسي وجاء إلى غزة التي تبعد عنه آلاف الكيلومترات، وتعاون مع كل عدو ممكن لإسرائيل، ودعم كل أشكال مقاومتها متعالياً على الانتماءات الحزبية أو الفكرية أو العقائدية أو الجغرافية. والأهم، أنه نجح في كتمان هذا الموضوع لعشر سنوات، وأخفاه عن أقرب المقربين اليه، متنقلاً بين تونس ولبنان وسورية وتركيا، في صمت لافت، وبدأ ينقل خبرته وتجربته إلى أجيال جديدة. وذكر الزواري بنفسه في البرنامج التلفزيوني الذي اهتم بنادي الطيران في صفاقس، أن هدفه هو نقل الاهتمام بهذه التكنولوجيا إلى أجيال جديدة وتعميمها على الأطفال والشباب. كل هذه العوامل، جعلت منه مقاوماً مثالياً، وهدفاً أساسياً لإسرائيل.