الرّقة مرآة الثورة السورية

17 يونيو 2017
+ الخط -
اليوم، تنزف الرّقة السورية ما تبقى من دمها، تتوسّد ذراع فراتها وتتكوّر ململمةً جراحها الكثيرة، في محاولةٍ لتأجيل الموت القادم إليها من كل اتجاهات الأرض. تُطبق الرّقة عيونها تحت سماء مزّقتها القنابل والصواريخ، وأطفأ الفوسفور الأبيض أضواء قمرها وشمسها.
اليوم، تتابع الرّقة اختصار الحكاية كلها، وتًفرد تاريخ الثورة فيها على كتب العالم، ليعكس تفاصيل المقتلة السورية كاملةً، ويتنبأ بمستقبلٍ لا يخص المدينة المنكوبة وحدها، بل يمتد ليرسم ما سيؤول إليه غد سورية القادم على اتساع الخارطة.
لطالما كان ما تمر به الرّقة مرآة مصغّرة لما تمر به سورية كلها، لكنها مرآة تعكس التفاصيل الصادمة بوضوح ومن دون رتوش، وتقدّم رسماً دقيقاً مباشراً لما يحدث بشكلٍ غير مباشر في كل المحافظات السورية. وليس على من يرغب بمعرفة حقيقة ما حدث في سورية خلال السنوات الست المنصرمة إلا أن يعود إلى تاريخ أحداث الرقة بالذات لترتسم لديه كل التفاصيل.
فعلى الرغم من انطلاق المظاهرات في الرّقة بعد أسبوع من انطلاقها في درعا، وتواصلها خلال الأشهر الأولى، ولو بشكلٍ خجول، إلا أن كل أشكال الحراك الثوري في المدينة لم تلق ما تستحقه من تغطيةٍ إعلامية، بل تم تغييبها بشكلٍ شبه تام بما في ذلك الاعتصام أمام القصر العدلي في الشهر السابع، وانتفاض آلافٍ من أبنائها خلال شهر رمضان 2011.
ظن نظام الأسد أنه ضَمن ولاء الرّقة بنشر فكر حزب البعث بين أبنائها، وتماهيهم خلال مراحل سابقة مع سلطته. كما ظن بشار الأسد أنه استطاع، بصلاته في مسجد المدينة في العام الأول للثورة، ضمان بعض شيوخ العشائر، القادرين (باعتقاده) على كبح جموح الشباب الثائر، وهو ما حاول النظام اللعب عليه في بدايات الحراك السلمي في كل المناطق، بكسب تأييد السلطات الدينية أو العشائرية أو الاجتماعية، إلا أن هذا المفهوم كان أول ما أسقطته الثورة.
ومع بداية السنة الثانية، بدأت الرّقة تدفع ثمن الحرية بقوافل من الشهداء والمعتقلين، واتسعت خريطة الحراك الثوري فيها لتشمل كل أحيائها والقرى والمدن التابعة لها. وكما حصل في كل المحافظات السورية، كان إسقاط الصنم الأكبر في ساحة الرّقة حدثاً تاريخياً، لكنه تميّز حينها بتحرير واقعي للمدينة، يحاكي مشاعر التحرير التي انتابت السوريين مع كل سقوطٍ لتمثالٍ للطاغية في أي مدينةٍ سورية أخرى.
عاشت الرّقة أربعة شهور إحساساً كاملاً بالحرية من نظام الأسد، وحاول شبابها صناعة أنموذجٍ جميل لمنطقة محرّرة، تُحكم بإدارة مدنية متحمسة. وتميزت تلك الفترة بانتشار عشرات التجمّعات المدنية التي بدأت تعمل مثل خلايا النحل، لترميم البنية التحتية ونشر ثقافة العمل المدني، وتأسيس أرضيّاتٍ مدروسةٍ لاستمراره.
لكن حلم الرّقة الجميل، وهو حلم كل سوري شارك فعلاً أو عملاً أو فكراً في الثورة، لم يلبث أن حوصر من جديد، لكن بأيدٍ تختلف شكلاً عن نظام الأسد، وتشابهه بالتسلط والتحكم وبشكل أقسى وأبشع. ومع انقضاء ربيع التحرير، بدأ تنظيم داعش يتوغل في كل مفاصل الحياة في المدينة، ليبدأ ملاحقة المنظمات المدنية واختطاف رموزها، وهو ما تحول، مع مرور الأيام، إلى اعتقالٍ علني مباشر، استهدف الناشطين المدنيين والسياسيين الذين لم تطلهم يد النظام، فطالتهم يد "داعش".
مطلع 2014 سقطت الرّقة بيد التطرّف، بعد معارك مع الفصائل المقاتلة في المنطقة، لتبدأ مرحلة النزوح القسري لأبناء المدينة، وخصوصاً ناشطيها، بعد تعرّض حياتهم لخطر الاعتقال أو الذبح. وهو ما حدث في كل المدن السورية الثائرة، لكن الاختلاف كان فقط في التسميات؛ فهنا كانت "داعش"، وهناك كانت جبهة النصرة. وفي أماكن أخرى، كان لهؤلاء تسميات أخرى، وكلهم كانوا، بشكل أو بآخر، خناجر في خاصرة الثورة وعملاء، بشكل مباشر أو غير مباشر، لنظام الأسد؛ كانوا شمّاعته الأهم التي علّق عليها كل مبرّراته للعالم، واستخدمها فزّاعة لبقية السوريين.
استمرت مسرحيات النظام و"الإرهابيين" خلال السنوات الماضية، في تسليم مناطق واستلامها وإعادة توزيع وانتشار في الأراضي السورية، حسب ما تقتضيه مخططات المراحل المختلفة. وها نحن اليوم ربما نشهد فصلاً آخر لمسرحيةٍ جديدةٍ، ستخرج فيها "داعش" من الرّقة باتجاهٍ لم نعد قادرين على تحديده، وستسلّم الرقة من جديد لتطرّف آخر؛ ليس دينيّاً هذه المرة، بل قوميٌّ، ولم نعد قادرين أيضاً على تخمين نتائجه.
اليوم، تُجبر الرّقة على الدخول في مرحلةٍ جديدة، وربما سيكون مستقبلها القريب مرآة حقيقية لمستقبل سورية البعيد، مثلما كانت أحداثها الصارخة خلال سنوات عصيبة، الوجه الأكثر مرارةً ووضوحاً لأحداث الثورة السورية كاملة.
avata
غالية شاهين

صحافية سورية من أسرة "العربي الجديد"