إنّ التواصل بين الأنواع الموسيقية، لا يمكن اعتباره بحد ذاته شرطاً لتحقيق الإبداع الموسيقي. فتلك الحدود التي تُميّز كلّ نوع عن غيره، تجعل منه بصمةً فنيّة خاصّة لمنطقة ما وتاريخها، أو لحقبة زمنية معيّنة، تمثّلت بمجتمعٍ ما، أنتجت ظروفه شكلاً موسيقيّاً يميّزه. وبالتالي، فإنّ دمج الأنواع الموسيقية وإذابة الفواصل بينها، مغامرة قد تفضي إلى مُنتجٍ فنّي ذي جودة عالية، أو قد يكون مجرّد عبث بالهوية في حال أُسيءَ استخدام الأدوات المتوفرة.
يقودنا ذلك إلى التوقّف عند الرغبة لدى الكثير من الفنانين العرب في تبنّي أنواع موسيقية غريبة، إلى حدّ ما، عن ثقافات المجتمعات العربية، أبرزها موسيقى الروك، عبر محاولة خلق فرع محلي لها. يتطلّب هذا الدمج الكثير من المجهود والمعرفة بكليهما: التراث الموسيقي المحلي من جهة، والرّوك، أو أي نوع موسيقي آخر، من جهة أخرى. إلى جانب وجود رؤية وأسباب فنيّة لهذا الدمج الذي قد يكمن في الكلمات أو طبيعة الألحان. أياً كانت درجة تحقيق هذه المعايير، فهي تندمج وتعمل معاً لإنجاح أو فشل تجربة التبنّي والمزج تلك.
إن تناولنا آلة العود مثلاً، سنجد أنه يصعب تحديد منشأها الأول بدقة، كما أنه ليس هناك بلد يختصّ بها دون غيره، عربي أو غير عربي. فمعظم الثقافات لها نسختها الخاصة والمشتركة من العود والمقامات التي يتميّز بعزفها. فعلى سبيل المثال، للمصريين تراث من الأغاني والقطع الموسيقية (مثل أغاني السُّمّار والبدو والصعيد)، يصلح العود دون سواه من آلات لعزفها؛ لذلك نجد أن هذه الآلة تتحرّك بصوتها ونغماتها في مساحةٍ موسيقية واسعة، هي جزء أساسي من ثقافة المصريين.
من هنا، نشعر أن التعبير عن النّفس فقط ضمن آلات نحن مَن ابتكرها يبدو ضيّقاً؛ فأحياناً قد يجد المستمع حزنه متجسّداً في نغمة آلة العود، وفي المقابل، قد يجد غضبه مثلاً، متجسّداً في نغمة الغيتار الكهربائي الذي يرافق أغنية روك أجنبية لا نفهم معانيها كثيراً. لذا، فإن محاولة استيعاب آلة معينة أو نمط موسيقي داخل لحنٍ ما، هي محاولة تبدو ناجحة إن ما قابلناها بمن يكرّر قالباً ليس له، من دون إضفاء بصمة شخصية أو إتقان.
هكذا، تصبح مسألة تلقّي الموسيقى بعد التغييرات التي طرأت على المجتمع مسألة شائكةً، وترتبط بعوامل سياسية واقتصادية عدّة، تلعب دوراً أساسيّاً في تقبّله لهذه الموسيقى أو رفضها. فرغم اكتساب الموسيقى الممزوجة بالروك شعبية في مصر، إلا أنها كانت تُلاقي، في البداية، مقاومة واضحة من المُستمع.
ففي أغاني السوق أو التجارية، أو مهما كانت تسميتها، دخلت الآلات الغربية في توزيعات تفتقر إلى القيمة والموهبة. لكن القائمين عليها حاولوا، في المقابل، الحفاظ قدر الإمكان على إيقاع الأغنية في نطاق "المقسوم" مثلاً، خوفاً من أن يشعر الجمهور بأنّ الفنان مُتعالٍ عليه.
لكن، لدى شعوب عربية أخرى، وربّما هي أكثر انفتاحاً لأسباب جغرافية وعوامل اختلاطها بثقافات أخرى، طوّر الاستقبال الشعبي موسيقى مثل الروك والراب، بل وصنع منها أنواعاً موسيقية جديدة، ولا نبالغ إن قلنا إنّها لم تكن موجودة من قبل، تمثّلت في تجارب كثيرة لعلّ أبرزها تجربة الجزائر؛ حيث لا نستطيع فصل الروك عن الرّاي في موسيقى رشيد طه أو الشاب خالد أو غيرهما.
ولا يمكن فهم سبب توجّه كثير من الفنانين إلى الرّوك تحديداً، بمعزل عن التمعّن في الحالة الثورية وما صاحبها من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية في عالمنا العربي. فهذه الحالة، إلى جانب طموح أي فنان أو فنانة بالنجومية فوق المسرح بالغيتار، يفسّران هذا التوجّه، الذي اقتصر في كثير من الأحيان على الآلات والإيقاعات، من دون أن يسري على النغمات والجُمل الموسيقية نفسها.
ومن جهةٍ أخرى، إن نظرنا في أعمال كل من سيد درويش والشيخ إمام، فنجد أنهما مثالان صالحان لوضعهما في قالب روك معاصر؛ إذ إن أغانيهما قابلة لإعادة توزيعها موسيقياً ضمن آلات وجُمل موسيقى الروك وتفرعاتها (وشهدنا هذا في بعض التجارب الجديدة)؛ ما ينقلها إلى خانة الموسيقى الحديثة التي تحاكي إيقاع وسرعة تقدّم العصر، وتعبّر من خلال قوة الآلات والكلمات عن الحالة الثورية الراهنة.
وإن سلّطنا الضّوء على النماذج الموجودة في الساحة الفنية العربية (غالباً المستقلة وشبه المستقلة)، نجد أن نقطة الضعف الأبرز في أي مشروع روك تكمن في تصدّي اللغة (المقاطع اللغوية) للمقاطع النغمية، أي rhythm، والإيقاع، أو ما يسميه أهل الصنعة بـ"التقطيع".
يُمكن أن يكون مردّ هذا الأمر إلى أنّ الروك لم يُبنَ على الألفاظ العربية، وإن سمحت بعض اللهجات العربية بالاتّساق مع هذا التقطيع، مثل اللهجة اللبنانية والجزائرية والتونسية التي تناسب، غالباً، قالب الروك بمختلف إيقاعاته.
لكن اللهجة المصرية، مثلاً، لم يستطع الأغلب إخضاعها للروك. ولعلّ العكس من ذلك قد ينجح؛ أي إخضاع اللحن أو جعله متوازياً مع مقاطع اللغة، حتى نستطيع الغناء كما نتكلم. إلّا أنّ هذا قد يُدخلنا في حيّز الافتعال، بحيث نجبر اللحن على الاتساق مع الكلمات، إلى جانب أنه قد ينجح لجهة النطق وحسب، وليس لجهة الموسيقى وعفويتها. لكنّه أيضاً قد يكون مرناً لمن يتقنه، إلى درجة أنه يسمح بأن تُغنّى اللهجة الصعيدية على موسيقى الروك.
لا يُمكن القول إنّ هذا القالب الموسيقي لا يحقّق انتشاراً واسعاً الآن في مصر، لكن ثمّة عوامل لا بدّ من أخذها في عين الاعتبار. فالدعاية التي اعتمدت بشكل أساسي على من يملكون رأس المال، الذين بدورهم يتمتّعون، بشكلٍ ما، بسيطرة تروّج لثقافة معينة في المجتمع، ساهمت في انتشار الروك.
ومن جهة أخرى، تلعب السياسة الداخلية والخارجية للبلد نفسه دوراً بارزاً. فهي من تسمح وتساعد في تمرير ثقافة معينة أو نوع موسيقي معيّن؛ ما يؤدي إلى ازدهارها وانتشارها أكثر من غيرها. بعبارة أخرى، كما يتم تصدير أنواع طعام محدّدة، يتم أيضاً تصدير أنواع موسيقية يهيمن منها الأقوى، ليس كثقافةٍ؛ لأنه لا يوجد تنافس بين الثقافات الأصلية متجذّرة، وإنما بوصفها حالة استهلاكية خاضعة للعوامل الدعائية التي تحدّد هيمنتها.
ويبدو من خلال قراءة المشهد الراهن، أن الروك هو الذي حصل على الفرصة الأكبر ليبرز نفسه بين تلك الأنواع الموسيقية/ الثقافات بحكم تلك السيطرة. قد يكون تراجَع هذا الأمر قليلاً بسبب التقدّم التكنولوجي وتوافر آليات الإنتاج المنزلي للموسيقى ونشرها اليسير عبر الإنترنت، إلّا أنه ظلّ متحكّماً في السوق التجارية للإنتاج.