الروزنامة الوطنية الفلسطينية

17 مايو 2015
+ الخط -
كم عدد التواريخ التي يمكن لذاكرة وطنية، أو قومية، أن تحتفظ بها محصّنة من النسيان والاندثار؟ كم عدد الأحداث المحددة بتاريخ معين، ويمكن لسواد شعب كامل أن يعتبرها مؤسسة في فهمه تاريخه وحكايته؟ لا يبدو أن الذاكرة الجامعة لشعب، أو أمة، قادرة على حفظ الكثير، ناهيك عن أن تزاحم التواريخ والمناسبات يفقدها فرادتها وتمركزها في الوعي الجمعي أحداثاً مؤسسة. ولذلك، تخلو رزنامات دول وشعوب إلا من مناسبة وطنية أو مناسبتين، ويغلب منطق الدمج في التعامل مع التواريخ الوطنية، كأن يكون يوم الاستقلال يوم تأسيس الحزب الحاكم، أو إطلاق حركة تصحيحية أو التأريخ لانقلاب في الحكم. تتقن عديد الدول ونخبها مركزة الأحداث والتواريخ، لتتمكن من إمساك الذاكرة الجمعية وتطويعها لخدمة رؤية الشعب، أو الأمة، عن نفسها.
لا يحمل الأمر دوماً دلالات سلبية، من قبيل السيطرة على الذاكرة الجمعية، وصناعتها، والتحكم بها، بل هو في جوهره إدراك لحقيقة أن المفاصل الفارقة في حيوات الشعوب محددة، ولا بد من التعامل معها بمنطق واعٍ، يؤهلها لتظل أحداثاً مؤسسة في الرواية التاريخية. ويمكن، من خلال التمعن في الروزنامة الوطنية لعديد الدول، أو الشعوب، التثبت من وجود تصنيف وترتيب للأحداث والمناسبات والتواريخ الوطنية، وهذا التصنيف يحدد شكل الاحتفاء والاحتفال والتذكّر، ويبلغ الأمر حدودا ومستويات مختلفة من الانشغال العام بهذه المناسبات، فيمكن أن يضع الرئيس في الذكرى السنوية لمعركة خالدة إكليل زهور على نصب تذكاري لجنود بلاده، ويمكن، في حالات أكثر أهمية، أن تنطلق صفارات إنذار تقف لها الدولة، بكل مواطنيها، إكراماً لذكرى انتصارٍ ما، ويمكن أن تعلن عطلة رسمية في المناسبات الوطنية الأهم، فترسخ في وعي الجميع، حتى طلاب المراحل الابتدائية، من دون شرح كثير ولا تذكير وتلقين. 
النتيجة أن هنالك ما تمكن تسميته "اقتصاد المناسبات الوطنية"، وهذا يحدد، بدقة، وفق رؤية لما يخدم الذاكرة الوطنية الجمعية، وبما لا يوقع العامة في دوامات مناسبات وتواريخ، تتساوى قيمتها حتى تبدو كلها على المقدار نفسه من الأهمية ومن اللاأهمية أيضاً. والمهم، هنا، هو الطبيعة الكاشفة لشكل النظم القائمة ورؤيتها للذاكرة الجمعية وأشكال السيطرة على الوعي الجمعي، من خلال التمعن في الروزنامة الوطنية وأشكال الاحتفاء والانشغال بكل تاريخ محدد عليها.
حين يكون الاحتفال بعيد ميلاد الملك، أو تأسيس الحزب الحاكم، أضخم من الاحتفال بالاستقلال، فهذا أمر بالغ الدلالة، وحين تتداخل المناسبات الدينية بالوطنية فهذا، أيضاً، يدلل على شكل الذاكرة المرعيّة في كيان ما. وتظل التخريجات والمبررات والخطابات المرافقة لأي تعميد لحدث أو تاريخ أو مناسبة في الروزنامة الوطنية؛ بالغة الدلالات على مستوى التطور والتعقيد الذي بلغه اقتصاد المناسبات الوطنية في تلك الدولة، أو لدى نخبتها الحاكمة.
فلسطينياً، وعلى وقع ذكرى النكبة، وفي حالة شعبٍ لا يزال يخوض صراعه على مستوى الذاكرة، ويفزع كل يوم مطلقا نداءات الاستغاثة من فقدان ذاكرة محدق وأعراض نسيان مزمن، يبدو التمعن في الروزنامة الوطنية مهماً جداً وكاشفاً جدا. أقل ما يقال عنها إنها مزدحمة، بما يليق بإمبراطورية، لا بشعبٍ لا يزال يبحث عن دولة، وازدحامها أهم ما يعزز احتمالات النسيان، ويشتت جهود مركزة تواريخ محددة في الواقع والوعي. ومتشظية إلى روزنامات للحركات والفصائل والجماعات التي تعتقد أن انطلاقة كل منها أهم ما حدث للفلسطينيين.
وتائهة بين ذاكرة الضحية وبكائياتها والبطولة وعنترياتها. ومفتعلة إلى حد يجعل يوم المرأة العالمي يوم عطلة رسمية ونشاطات قد تتجاوز في حجمها يوم الأسير. ومع كل هذا سافرة عن رغبات ملحة لدى كثيرين في النسيان، بدل الخوف منه.
2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين