الرواية والانتماء إلى الفضاء الأدبي

28 يوليو 2015
لوحة للفنان الفلسطيني عبدالرحمن المزين
+ الخط -
قد لا يعني تتويج كاتب روائي في بلد عربي ما، بجائزة كبيرة مثل جائزة البوكر، ووصول روائيين آخرين إلى القائمة القصيرة لهذه الجائزة أن الرواية في هذه البلدان المعنية، ترتاد في المرحلة الرّاهنة أفقًا جديدًا على صعيد الكتابة والمقترحات الجمالية، وكذلك الفكر الذي تنتجه هذه الرواية.
لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن الجوائز الأدبية لها من التأثير ما لا يمكن نكرانه، على مستوى تقدير الكتابة، وتداوليتها والدفع بها إلى دائرة ضوء الاهتمام العربي، وكذلك العالمي عبر الترجمة إلى عدة لغات عالمية. غير أن الجوائز لا تمثّل، دائمًا، مقياسًا دقيقًا للحكم على وضعية الكتابة ورسوخها في حقل ثقافي معيّن. لذلك يصعب أن نتبيّن اعتمادًا على هذا التقدير فقط، علامات تدلّ على صورة معينة لوضعية الرواية ومكانتها في السياق العربي والعالمي. فمما لا شك فيه أن للمؤسسات الراعية للجوائز، وكذلك للجان القراءة مقاييسها واعتباراتها التي تتحكّم في تقديرها لنص من النصوص، ما يعني أن ما يجري تقديره أو تتويجه بالجائزة قد لا يشكل بالضرورة أهم وأنضج ما أنتج في مجال الرواية في ثقافة بعينها من حيث الإضافة الجمالية والفنية. وهذا لا يعني تقليلًا من أهمية النصوص المتوّجة أو المحتمل تتويجها. لذلك تتباين الآراء والتقييمات والتصوّرات بين القراء والمهتمين عندما يتم الإعلان عن قوائم هذه الجوائز وصولًا إلى النتائج النهائية.
والواقع أننا عندما نفكر في راهن الرواية العربية بعيدًا من هذا المعطى، ونتقصّى النصوص التي تؤثث مشهدها الحيوي بتعدّد لغاتها وتنوّع سؤال الكتابة فيها، يتبيّن لنا أن الرواية أصبحت في قلب المشهد الثقافي العربي، وهي تنهض بأحد أدوار المثقّف النقدية المهمّة من خلال اشتغالها على الأسئلة العميقة التي تمثل هاجسًا بالنسبة للفرد والمجتمع. وهذا الإنجاز الذي يتحقق بفضل إصرار كتّاب وكاتبات على مواصلة الكتابة أو المغامرة بارتياد أفقها، والاشتغال على المتخيّل الذي يتخلّق من رحم اللحظة الراهنة وما يرتبط بها من قضايا وإشكالات، أو يغترف بأفق انتقادي من التاريخ وأحداثه الماضية فيتقاطع في نص واحد نمطان من الخطاب: تاريخي وروائي، كلّ ذلك يفسّر التقدير والاعتراف اللذين تحظى بهما كثير من نماذجها، الأمر الذي يعني أن الرواية التي عانت خلال نشأتها من وجودها في الهامش، كما أبرزت ذلك التحليلات اللماحة لميخائيل باختين، صارت اليوم في صدارة الخطابات المعرفية الأخرى، بوصفها صيغة متميّزة لفهم الحياة.
وضمن هذا السياق تبرز أهمية التراكم الذي تحقّق في حقلها ليس فقط على المستوى الكمّي، بل كذلك على مستوى نوعية الكتابة وجمالياتها ووعيها باللغة والتخييل، وكذلك وجود مواهب إبداعية متميّزة في حقلها ترسّخ صورة للرواية بوصفها ذاكرة للمجتمع، وملجأ لممارسة الحرّية التي هي نقيض للضرورة والاستبداد واحتكار الحقيقة. وهذا التراكم لا يقتصرُ على ما يقدمه الكتّاب الرّاسخون الذين نقلوا الرواية من كتابة التسلية والمتعة إلى الكتابة المنتجة لمعرفة ذات خصوصية مقارنة بالكتابات السياسية والفكرية والاجتماعية، بل يعود الفضل فيه كذلك إلى المبدعين الجدد الذين يستكشفون من خلال السرد الأدبي وتقنياته وأساليبه المختلفة، أسئلة أخرى، ومساحات للقول لا تقل جذرية وعمقًا واختلافًا عن تلك التي شخّصتها نصوص الجيل السّابق.
وإذا كان من دلالة يمكن تلمّسها من خلال هذا التقدير والإشعاع الذي حظيت به تجارب كثيرة في حقل الرواية العربية، فهي دلالة كون الكتابة، اليوم، صارت تتمّ ضمن شروط اجتماعية واقتصادية مختلفة تلقي بثقلها الكبير على مسألة الاعتراف بالكتاب، وعلى الميولات الاستهلاكية للقرّاء وانتظاراتهم. فرغم التطور الكبير الذي حصل في حقل التواصل وتعدد وسائطه، يلاحظ أن صوت القارئ لا يصل إلى الإعلام الأدبي المتخصص على النحو الذي يؤثّر في المؤسسة الأدبية، خصوصًا أجهزتها المعنية بإضفاء الشرعية، وترسيخ الكتاب. وكمثال على ذلك رواية "تغريبة العبدي" للكاتب المغربي عبد الرحيم حبيبي، التي لم يكتشف قرّاء كثيرون كاتبها، مع أنها روايته الثالثة، إلا بعد أن تسلّط عليها ضوء الإعلام بوصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر. وهكذا كان لهذا الحدث الأدبي فضل إلقاء الضوء على هذا الكاتب، وترسيخ اسمه في حقل الرواية العربية المعاصرة. وبهذا المعنى، لا تعيد الجوائز الأدبية الحياة للنصوص فحسب، بل تجعلها جزءًا من الفضاء الأدبي الذي يغتني ممّا تحمله إليه من إضافات توسّع مفهوم الرواية وصلتها بأسئلة الإنسان والعالم.
(كاتب مغربي)
المساهمون