قبل أيام تقدم أحد المحامين المصريين، هو عبدالرحمن عبدالباري الشريف "الأمين العام للجنة الحقوق والحريات" بنقابة المحامين المصرية، وهنا المفارقة، بدعوى ضد فيلم "الشيخ جاكسون" وطلب استدعاء أحمد الفيشاوي وعمرو سلامة، بطل ومخرج الفيلم، إلى القضاء بتهمة التشكيك في ثوابت الدين عن طريق بعض المشاهد في فيلم "الشيخ جاكسون". الواضح أن ذلك يأتي ضمن حلقة في مسلسل تعرّض الفنانين والأدباء في مصر لاحتمالية السجن كرد فعل على الإنتاج الفكري لكنها ليست المرة الأولى، فالرقابة والقضاء المصريان لهما تاريخ طويل في منع أو ملاحقة الأفلام، بعضها لأسبابٍ سياسية، والبعض الآخر لأسباب تتعلق بتناول "الجنس"، وأخيراً هناك السبب الثالث الذي يُلاحق وقد يُمنع بسببه "الشيخ جاكسون" حالياً وهو "الدين". وفي هذا التقرير نسترجع بعض الأحداث المؤسسة، والأفلام التي تناولت، بصورة رمزية أو مباشرة، "التابو" الديني.
يوسف وهبي والنبي
أقدم الحوادث المسجلة عن الصدام بين الفن والرقابة بسبب مسألة دينية هي قضية الفنان يوسف وهبي، ورغبته في تجسيد نبي الإسلام محمد في فيلم سينمائي عام 1926، وبالرغم من أن المجتمع وقتها كان أكثر انفتاحاً، إلا أن الأزهر الشريف أصدر بياناً يرفض فيه هذا الفيلم، بل ويُفتي بعدم جواز تجسد النبي والصحابة والعشرة المبشرين بالجنة في الأعمال السينمائية، وهي الفتوى المُستند عليها عند التعامل مع أي تناول ديني حتى الآن، والذي امتد حتى لمنع أفلام أميركية يظهر فيها تجسيد لأنبياءٍ آخرين.
نتيجة لذلك فإن السينما المصرية تجنبت تناول القضايا الدينية لعقودٍ طويلة، خصوصاً مع تأصل الرقابة في فترة لاحقة، ورفضها لأي سيناريوهات أو أفلام قد تسبب جدلاً دينياً واسعاً، تحديداً بعد ثورة "يوليو ١٩٥٢"، حيث القضايا الوطنية والاجتماعية هي الأولى بالحديث عنها، وأي خروج عن ذلك يتم رفضه باعتباره "شقاً للصف".
اللجوء إلى الرمز
لاحقاً، ومع وجود فنانين لديهم رغبة حقيقية بتناول بعض القضايا التي تَمَس الدين والقضايا الفكرية المتعلقة به، كان هناك خياران، الأول أكثر أمناً وهو اللجوء إلى "الرمز"، كخدعة ناجحة للهروب من المشاكل. فنرى فيلماً مثل "قلب الليل" (1989) للمخرج عاطف الطيب، عن قصة قصيرة للأديب الكبير نجيب محفوظ، يجسد فيه الممثل فريد شوقي شخصية "الزعبلاوي"، الجد ذا اللحية البيضاء الطويلة الذي يجلس في قصر ضخم ويطرد حفيده من مُلكه بعد أن عصى أوامره، ويعاني الحفيد في الحياة على الأرض بعد ذلك، في تماسٍ واضح بين القصة الإبراهيمية عن الخلق وطرد النبي الأول آدم من الجنة.
نفس المساحة من الرموز نراها في أفلام مثل "البحث عن سيد مرزوق" (1989) للمخرج داوود عبد السيد، حيث يقضي بطل الفيلم الأحداث كلها محاولاً الوصول إلى "سيد مرزوق" (ذي الاحتمالات التأويلية المختلفة) ورؤيته، أو فيلم عبد السيد الآخر "أرض الخوف" (1999) حيث الشخصية الرئيسية التي تحمل الاسم الرمزي "آدم"، ويأكل في بداية الفيلم من تفاحة، تكون بداية خروجه من حياته الآمنة ورحلته في "أرض الخوف". وصولاً لأفلام أخرى مثل "سوق المتعة" للمخرج سمير سيف (2000) أو "الريس عمر حرب" (2007) للمخرج خالد يوسف، وهي أعمال تمتلك هي الأخرى قصتها الرمزية في تناول الدين، بشكل يجنبها المشاكل والمحاكم.
المباشرة تقود إلى المنع أو المحكمة
في المقابل حاول فنانون آخرون أخذ طريق آخر في تناول هواجسهم وأفكارهم عن الدين وعلاقته بالمجتمع، وهؤلاء تعرضوا لمنع رقابي وتلفزيوني، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى الملاحقة القضائية.
من أوائل تلك الأفلام "غرباء" للمخرج سعد عرفة (1973)، والذي أنتج في فترة بحث عن الذات بالنسبة للمجتمع بشكل عام، ويجسدها "عرفة" في حكاية فتاة ترتبط حياتها بـ٣ رجال؛ أخيها وحبيبها وأستاذها، ويملك كل منهم تصورات مختلفة عن الدين، من قمة التشدد مثل الأخ، إلى قمة التفتح لدرجة الإلحاد مثل الأستاذ، وتحاول هي الوصول للـ"حقيقة" بين كل هذا. ومنعت السلطات المصرية الفيلم بحجة "عدم إثارة البلبلة"، واعتبرت الرقابة في بيانٍ رسمي أنه "يدور في إطار فلسفي قد يؤدي لإلحاد من ليس لديه إيمان قوي بالله".
ولكن صناع "غرباء" كان حالهم أفضل من المخرج الكبير يوسف شاهين، الذي أخرج فيلمه "المهاجر" (1994) بجرأة، معتمداً على صيته كمخرج عالمي تعرض أفلامه في مهرجانات "كان" و"برلين" و"فينيسيا"، وصانع السينما المصري الوحيد الذي فاز بجائزة من أحد المهرجانات الثلاثة الكبرى، فقدم قصة النبي "يوسف" بمعالجة جديدة. ليتم منع الفيلم من العرض لسنوات طويلة، والأسوأ هو القضية التي رفعت على "شاهين" وجعلته يذهب إلى ساحات المحاكم أكثر من مرة بتهمة تشويه صورة النبي والتجاوز الديني.
وهناك أيضاً فيلم "بحب السينما" (2004)، الذي يتناول مخرجه أسامة فوزي بعضاً من سيرته الذاتية مع أسرته المسيحية الأرثوذكسية، والأب المتطرف والحاد دينياً، في مقابل الطفل المُحب للسينما والأفلام، ولكن ذاتية الحكاية لم تمنع ملاحقة الفيلم قضائياً ورقابياً، وأصدرت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بياناً تعتبر فيه الفيلم "خطراً واعتداء على حقوق فئة من المجتمع".
وينضم "الشيخ جاكسون" الآن لتلك القائمة من الأفلام التي تعاني من مشاكل بسبب اقترابها من "تابو" الدين، مع احتمالية تعرض الفيلم للمنع، أو الاحتمال الأسوأ في تعرض صناعه للملاحقة القضائية والحبس.