يحملون شهادات في الرياضيات والتاريخ والفنون الجميلة وغيرها، إلا أنهم لم يجدوا وظائف في مجالات تخصّصاتهم، ولم يحصلوا على ردود على طلباتهم التي تُرمى في سلال المهملات، أو تبقى على الرفوف. اليوم، يستيقظون مع بزوغ الشمس، ويعودون ليلاً إلى خيمهم التي تفتقر إلى المياه الصالحة للشرب والكهرباء وغيرها من الخدمات.
هؤلاء يقطنون في جبل صواف، بمحافظة زغوان، على بعد 60 كيلومتراً من العاصمة تونس. يقضون يومهم مع قطعانهم، وقد باتت محور حياتهم. إليها يشكون همومهم بعدما ظلمتهم الحياة. تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء ليسوا من الشبان فحسب، بل ثمّة شابات يعملن كذلك في هذا المجال.
زينة الكعبي (36 عاماً) درست الرياضيات، وتعمل اليوم راعية أغنام. خلال فترة قصيرة، صارت حديث جميع التونسيين، بعدما رفضت الاستسلام لواقعها. اختارت العمل كراعية أغنام لإعالة أسرتها. لكن زينة ليست وحدها التي تحمل شهادة جامعية، والتي اضطرت إلى العمل في هذا المجال في منطقتها البياطرية. في هذه المنطقة، عشرات الشباب الذين تخرجوا من جامعات من دون أن يجدوا أي عمل. يُذكر أن زينة كسبت تعاطف التونسيين، وقد أطلق البعض حملات عدة لمنحها لقب سيدة تونس الأولى، خصوصاً أنها مدرّسة لم تجد حرجاً في رعاية الأغنام، ولم تخجل من الحديث عن عملها الذي تحب.
أما سمية قويسم (29 عاماً)، فتعملُ أيضاً في رعاية الأغنام، على الرغم من حيازتها إجازة في التاريخ. تقول لـ"العربي الجديد": "ليس لدي أي مورد رزق. ظروفنا قاسية، وقد عانيت من البطالة على مدى أعوام. وفي ظل غياب أي أفق للعمل، لم أجد غير رعي الأغنام". تضيف: أن عائلتها تتكون من ثمانية أفراد، جلّهم عاطلون من العمل. لكنها لم تقبل الاستسلام لواقعها ولم تفكر في الانتحار كما يفعل بعض اليائسين، وقرّرت رعاية الأغنام. توضح أن ظروف دراستها كانت صعبة للغاية. لم يكن سهلاً عليها إيجاد وسائل نقل لتصل إلى الجامعة. كذلك، لم تكن عائلتها قادرة على تأمين المال لها لشراء الكتب والمراجع. مع ذلك، تحدّت كل الظروف لتتابع دراستها وتنال شهادة بقيت معلّقة على جدار الكوخ.
تؤكد قويسم أنها حاولت الحصول على قرض لإطلاق مشروع خاص، إلا أن جميع الأبواب ظلت موصدة في وجهها. لذا، توجهت إلى التعاونية الأساسية لتربية الماشية لتحصل على قطيع من الأغنام، مشيرة إلى أنه "لولا هذه الشركة التي احتضنت المتخرجين من الجامعات، لكان وضعهم أكثر قساوة". صباح كل يوم، تتوجه وقطيعها إلى جبل بوصفرة، حاملة رغيفها وما تيسر من طعام. ولا تنسى الكلاب التي تحرسها من الذئاب والحيوانات المفترسة. هكذا تقضي يومها إلى أن يحل الليل.
اقرأ أيضاً: تونسي مقيّد بالسلاسل منذ 16 عاماً
من جهته، يقول المعز الرياحي (30 عاماً) الذي درس الهندسة المدنية، إنه تخرج في عام 2012 من دون العثور على أي وظيفة. يضيف لـ"العربي الجديد" أن "رعي الأغنام مهنة شريفة لكنها متعبة. نحن مضطرون إلى العمل لتأمين عيشنا". ويؤكد أنه تقدّم بطلبات كثيرة للحصول على عمل، من دون نتيجة. في ذلك الوقت، شعر بأنه على وشك الاستسلام، وهو الذي طالما حلم بالعمل والنجاح في تخصصه هذا. ويلفت إلى أنه لا يحصل على المال في مقابل عمله، بل يحصل على خروف. في الوقت الحالي، لديه 150 خروفاً ويساعده شقيقه العاطل من العمل أيضاً. الأخير يحمل إجازة في إدارة الأعمال.
يخبر الرياحي أن المنطقة التي يعيش فيها حرمت من التنمية، "وليس فيها أي مرفق يؤمن لنا العيش الكريم. لا كهرباء أو مياه صالحة للشرب، أما والي الجهة فيرفض مقابلتنا والاستماع إلى مشاكلنا أو الرد على الرسائل التي تصله".
إلى ذلك، يشير مسؤول في شركة التعاونية الأساسية لتربية الماشية في زغوان، منجي بوكيل، إلى أنه قرر تشغيل العاطلين عن العمل في الجهة، ومنح الواحد منهم قطيعاً يرعاه ليؤمن مصاريفه، لافتاً إلى أن في الشركة نحو 11 شاباً وشابة من حاملي الشهادات، جلّهم يعمل في رعاية الأغنام. يضيف: "لدينا نحو سبعة آلاف رأس غنم، وهي تعدّ مصدر رزق لعدد من العائلات"، لكنه يلفت إلى بعض الصعوبات. ويوضح: "الأرض التي ينصبون فيها الخيم والتي تقطن فيها غالبية هذه العائلات المعوزة، قد منحت إلى مستثمر. وطلب منهم الأخير الخروج من الأرض، ما يعني احتمال تشرّد مئات العائلات التي ليس لها أي ملجأ". في الوقت نفسه، يشير إلى أن إدارة الغابات تضيّق عليها الخناق أيضاً، وقد باتت تلك العائلات في وضع لا تُحسد عليه.
اقرأ أيضاً: مستشفى وحيد في تونس لعلاج الآلاف