الربيع العربي يجدّد إلهامه

30 ابريل 2019
+ الخط -
خلال أسابيع، استطاع الجزائريون والسودانيون، عبر انتفاضهم الشعبي الثوري، إسقاط رأسي النظامين في بلديهما، وفتح آفاق ملهمة للسير بالثورة، وبشعارات التغيير نحو إسقاط كامل النظام القديم، وأركانه من سلطات مباشرة وسلطات متخفية، من قبيل قوى نفوذ محلية سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وعسكرية، ترفض التخلي طواعية عن ممارساتها ومسلكياتها السلطوية، لتبقى وفيةً لرأس النظام، حتى بعد إطاحته. ذلك أن بعض السلطة، ومن يواليها من قوى عميقة، تبقى تناور وتداور من أجل الاحتفاظ بالسلطة، وإن لم تستطع، تنحاز إلى جانب الحفاظ على مصالحها ومواصلة تسلطها وطغيانها على محكوميها من أبناء شعبها؛ وكأن شيئا لم يكن.
في الموجة الثانية من موجات انتفاض الربيع العربي، لم يعد يكفي اقتلاع رؤوس الأنظمة، مع بقاء طبيعتها الطغيانية قائمة تحت حراسة المؤسسات الأمنية والعسكرية والبيروقراطية ذات الطابع المدني، الأمر الذي يضع على عاتق الانتفاضات الشعبية ضرورة الاستمرار في الحراك السلمي المدني والشعبي الثوري، حتى إسقاط الأنظمة العسكرية والبوليسية التي لم تعلن انحيازها للمطالب الشعبية، فلم يعد مثيرا للاهتمام إسقاط الرئيس العسكري، أو المدني، المهم إسقاط نظام الاحتياط العسكري الذي تمثله المؤسسات العسكرية، والتي لطالما وقفت لتهندس أنظمة مدنية تابعة لها، أو لبعض رموزها. ويلاحظ اليوم، في المرحلة الثانية من ثورات الربيع العربي، أن جماهير تلك الثورات لم تعد تنطلي عليها خدع عسكر النظام القديم، ولا عسكر أي نظامٍ يريد التجديد لذاته بمزيد من الخدع، كما يريد تجديد استبداد تلك الأنظمة التي تريد تأبيد هيمنتها المباشرة، وغير المباشرة، على السلطة في بلادها. وإذا كان عبدالفتاح السيسي في مصر قد نجح مؤقتا في خداع شعب الثورة، فلن يكون في مقدوره مواصلة مزيد من الخدع التي باتت مكشوفة، ولم تعد تنطلي على قوى المعارضة وحراكات الشباب المنتفض في ميادين التغيير والثورة وساحاتهما، على الرغم من إسناد قوى إقليمية ودولية ترتاح لوجود قوى كاريكاتورية، أمنية الطابع وعسكرية، تقوم بأدوار حماية أمر واقع معادٍ لشعوب المنطقة
 وقضاياها المصيرية. وفي سورية، حيث يجري تغييب الدولة المدنية منذ عقود، لم يستطع نظام "الأبد السلطوي" إخفاء طابعه العسكري والأمني. وعلى الرغم من كل ما مرت به سورية من أحداث وويلات ومصائب، تسبب بها النظام، ورأسه الأول ووريثه الثاني، فقد فشل وسيبقى الفشل حليفه في التحول إلى نظام مدني، وهو الذي وسم نفسه، منذ البداية، نظاماً بوليسياً، تتعدد أجهزته المخابراتية وتتمدّد، في طول الوطن السوري وعرضه. وفي الجزائر التي اعتاد الجنرالات على ممارسة سلوك سلطوي، تجاه تحول الدولة إلى مدنية، منذ استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي، استمرت الدولة رهينة سلطة العسكر والجنرالات، حتى قبل أيام قليلة من اتضاح خدعة عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا عاجزا عن القيام بواجباته تجاه الدولة، وحتى تجاه نفسه، في إفصاح لحقيقة قيادة الجنرالات كل الأنظمة التي حكمت الجزائر، كان عسكرها هم "الدولة العميقة" وسلطتها المباشرة التي آلت على ذاتها وقف آليات الانتقال التدريجي نحو الديمقراطية، وبناء دولة مدنية حديثة، وتلك من بين مطالب كثيرة، يلح عليها الشعب الجزائري وقوى التغيير والمعارضة السياسية والحراكات الشبابية والشعبية المستمرة، وحتى بناء نظام ديمقراطي مدني بديل، قد يستغرق وقتا ونضالات شعبية تراكمية.
الديمقراطية والتغيير عملية تتلازم عبر التأكيد على شروط الثورات الشعبية، وهي تخاض بوصفها مهام تاريخية ملزمة في المجتمعات العربية، من أجل تحقيق منجزاتٍ تتكامل في مضمار التحديث الضروري والاستنارة، في سياق منجز وطني يلامس الأعماق الثقافية والأخلاقية، كما الاجتماعية والاقتصادية، وإلا فإن أي تغيير سياسي سوف يبقى شكليا، وتغييرا انقلابيا، واستبدال سلطة بأخرى مماثلة.
لهذا، فإن عمليات التغيير الثوري الحقيقية التي ينبغي أن تشهدها الحياة السياسية في بلادنا العربية هي التي تعلن وتطالب وتنجح في استعادة التواصل بين القوى الشعبية ونخبها الاجتماعية، من جهة، ومن ينحاز من القوى السياسية من جهة ثانية، وحتى بعض قوى السلطة المتمرّدة على قوى النظام ومنظومته البيروقراطية السلطوية المدنية أو العسكرية، كما حصل أخيرا في السودان، حيث تقبلت عديد من نخبه السياسية والعسكرية والشعبية، منضجة ولو نسبيا، مواقف أكثر شعبية وثورية وانفتاحا على واقع الثورة ومطالبها.
أخيرا، يلاحظ أن استبعاد قوى الثورة المضادة من واجهة حراكات التغيير والثورة التي شهدتها الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، في الجزائر والسودان، أبعد الكأس المرّة التي تجرعتها ثورات الموجة الأولى، والتي غلب عليها طابع الفوضى، وسلوك بعض القوى والتيارات الدينية عنفا أعمى، وإرهابا لا يمكن تبريره، تلطى النظام خلفه ليمارس إرهابا أشد مضاضةً ضد شعبه، حتى أنه وظف ذلك السلوك في غير مصلحة المنتفضين، إلى حد اتهام القوى الشعبية والمعارضة السياسية وكأنها هي التي مارست أفعال العنف والإرهاب، ليتعمد النظام الوصول إلى تلك النتيجة المرّة من الفشل في إسقاط بنياته التي تخلخلت، وخلخلت معها وضعية الرأس الذي لم يعد متوازنا، بقدر ما أصابه دوار التخلي عن السيادة، مقابل بقائه في السلطة.
أكدت انتفاضتا الجزائريين والسودانيين، بنتائجهما المباشرة وغير المباشرة، أنهما الألصق 
بمطالب الشعب، والأقدر على صنع مستقبلٍ مشرقٍ لأجيالهما، شريطة استبعاد كل وهم في شأن سلطةٍ تحكم، وقد حكمت عقودا، لتأتي اليوم لتعد بما كان في مقدورها أن تفعله من السنوات الأولى، لكنها تقاعست ونكثت بوعودها، وذهبت بعيدا في نكوصها، مستأنسةً بمتلازمة سلطة استبداد تغولت إلى حد تحولها إلى ديكتاتورية فردية، مدنية أو عسكرية، لتقيم نظاما استبداديا، يرفض أن يخضع لأي مساءلة شعبية، أو حتى أن يلتزم مبادئ دستور هو نتاج تركيبته وانسياق النخب السلطوية خلفه، وخلف مصالحها الزبائنية، وتبعيتها لخارج إقليمي أو دولي، لا دور له في "اختراع" الحلول، بقدر ما كان هو السبب الرئيس في اختلاق أزمات الداخل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي الأسباب المباشرة للثورة والانتفاض الشعبي واحتلال ساحات الوطن، حتى يحين موعد التغيير بمهامه التاريخية غير المنجزة، منذ عهود الاستقلال.
هي مهام ثقيلة، لكنها ممكنة وقابلة للتحقق، كما في المثال السوداني وقبله في الجزائري، وحبل الأمثلة على الجرار، فكل انتفاضة أو ثورة يجب أن تبقى عنوانا للتغيير اللازم والضروري، في سياق تنفيذ المهام التاريخية التي يتوجب تحقيقها، من أجل التنوير والتقدم والحداثة، للخروج من قيعان الاستبداد والتخلف والتبعية التي لازمت بلداننا ردحا طويلا من زمن الاستقلالات الشكلية، وهيمنة قوى الاستبداد المحلية على السلطة، وعلى حياة الناس، ومنعها من صياغة تطلعاتها ومستقبل أجيالها.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.