بعيداً عن الطرح السياسي للقضية الأمازيغية في الجزائر، ما موقف الرواية الجزائرية منها؟ هل تمثّل قضية مركزية عند الروائيين الجزائريين، بخاصة الذين يكتبون باللغة العربية؟ قليلة هي الروايات التي تعرّضت للقضية، إذا لم نقل إنّها نادرة بالفعل، الأمر الذي يمكن أن نفسره بأنّ القضية لا تمثّل هاجساً سياسياً وثقافياً واجتماعياً مركزياً في وعي شريحة كبيرة من كتّاب الرواية في الجزائر.
وعلى العكس من تواريخ أخرى حظيت باهتمام كبير، فأحداث أكتوبر 1988 مثلاً، تمثل مفصلاً تاريخياً حتى بالنسبة للذين يؤرخون للرواية الجزائرية المعاصرة. فأكتوبر 88 أصبح فاصلاً تاريخياً بين مرحلتين، ومنطلقاً لما يسميه بعضهم بالتجربة التعددية في الجزائر. لكن لماذا لم يكن 20 أبريل/نيسان 1980 في نفس أهمية أكتوبر 1988؟ أليس حدثاً تاريخياً يؤرّخ لرغبة قطاع كبير من النخبة الجزائرية ومن الشعب الجزائري في الاعتراف ببعد من أبعاد الهوية الجزائرية، وهو البعد الأمازيغي؟
لقد ظل هذا التاريخ حبيس أطروحات إيديولوجية وسياسية منغلقة، ما انعكس سلباً على طريقة التعامل مع الحدث ثقافياً وإبداعياً، خصوصاً وأنّ النظام الجزائري عرف كيف يسيّس القضية الأمازيغية، ويصنع منها مشكلة. في حين أنّ دُعاة إنصاف الهوية الأمازيغية في الجزائر، لا سيما من النّخب المثقفة، لا يعتبرون الدفاع عن هذا المكوّن إقصاء لمكونات أخرى مثل الهوية العربية والإسلام، بل يعترفون بأنّ الجزائر هي فسيفساء ثقافية، ولغوية، ولهجية، بل إنّ الاعتراف بالبعد الأمازيغي هو مساهمة في استكمال بناء الهوية الجزائرية.
هنا، يلعب الفن، والرواية تحديداً وظيفتهما في إعادة طرح سؤال الأمازيغية ضمن نسق ثقافي ومعرفي ولغوي ووجودي كذلك. في السنوات الأخيرة، ظهر جيل جديد من كتّاب الرواية في الجزائر ذوي الأصول الأمازيغية، الذين تجرؤوا وكتبوا عن الربيع الأمازيغي من دون عقد لغوية، ذلك أنّ الدفاع عن الأمازيغية ليس حكراً على اللغة الأمازيغية أو على اللغة الفرنسية، كما هو شائع في أدبيات الحركة البربرية، كما مثلها عميد الثقافة الأمازيغية الراحل مولود معمري. بل نجد من كتب عنها باللغة العربية.
هنا، تمثل رواية "سأقذف نفسي أمامك" (منشورات "ضفاف" و"الاختلاف" 2013) للروائية الشابة ديهية لويز، إحدى النماذج القليلة جداً التي طرحت موضوع الربيع الأمازيغي من خلال عمل روائي مكتوب باللغة العربية.
ما وقع في منطقة القبائل في أبريل 2001، هو بالنسبة لبطلة الرواية لحظة من اللحظات التاريخية التي لم يكن أحد يتصور أنها ستقع، وامتداد لربيع 1980، لكنها لحظة مكتوبة بالدم. كانت رغبتها هي معايشة الحدث والمساهمة في صناعة التاريخ، وكتابته. لقد كان الربيع الأمازيغي لهذا الجيل الجديد بابا للدخول إلى التاريخ، وصناعته ولو كان الثمن هو الدم:
"كان ربيع 2001، فصل الحب والورد والجمال، الفصل الذي تنتعش فيه القلوب بعد شتاء الجفاء.. لكن هذه المرة بالتحديد كان مختلفاً، لم يحمل في ثناياه سوى الألم، الدم الذي سال كثيراً من دون أن نفهم تحديداً السبب من ذلك، ولا ما كان وراءه".
من خلال رمزية "الربيع"، تكشف البطلة عن نظرتها إلى الربيع الأمازيغي الذي لم يكن كذلك بمعنى الكلمة، وانبثاقاً للحياة وعنفوانها، بل هو ربيع من طبيعة مختلفة تنتمي إلى الألم والحزن والدم. لم يكن ربيع 2001 إلا علامة مبهمة في تاريخ الجزائر المعاصر، لأنّ ما حدث من موت وقتل وقمع لم يكن مبرراً، تُضاف إلى تواريخ أخرى ظلّت مثل الصناديق السوداء تنام على أسرار غامضة.
لم يحدث انحراف في الحراك التاريخي فقط، بل حدث انحراف آخر في علاقة الكلمة بالشيء، أي في علاقة دال الربيع بمدلوله في الواقع؛ فما حدث لم يكن ربيعاً، وهذا ما يمكن إسقاطه على ربيع العرب اليوم، بل خريف الإنسان الجزائري، الذي فشل في صناعة التغيير السلس، وفشل في احتواء كل مكوناته الهوياتية، أمام إصرار السلطة على قتل الربيع في نفوس الجزائريين.
تتساءل بطلة الرواية مرة أخرى: لماذا لا تعترف السلطة بالأمازيغية؟ ولماذا تعمد إلى مراكمة المشكلات، الواحدة فوق الأخرى، ألا يشكل ذلك خطراً على مستقبل المجتمع؟ كأنه لا توجد إرادة سياسية صادقة لتسوية الوضعيات التاريخية والثقافية لهذا البلد، والاكتفاء بسياسة الهروب نحو الأمام، والدفع بالضغط إلى مداه الأقصى، من دون حساب كل الاحتمالات الممكنة لأي انفجار قد يحدث في أي وقت. وليست أحداث الربيع الدامي إلاّ دليل على أنّه ما لم يتم التكفّل بالقضية بجدية، فإنّ مراكمة الأزمات ليس حلاً لها، بل إنّ أية شرارة يمكن لها أن تحدث الانفجار الكبير:
"لكن هذا الوطن عوّدنا أن لا يقدم توضيحات عن الجنون الذي يصيبه كل مرة، منذ أن طردنا المستعمر، ما يزال يتخبط في أنفاق من الغموض وعلامات الاستفهام التي تنتشر في أرجائه مثل الأوبئة.. لم يكن ذلك الربيع سوى انفجار لبركان يغلي من سنوات، تجمعت فيه كل العناصر المتفجرة، ليكون قرماح ماسينيسا الشعلة التي تؤجج حممه".
في رواية الكاتبة لويز إدانة قوية لأساليب النظام في مواجهة ربيع الشباب الأمازيغي، الذي هو ربيع كل الجزائريين، وقد فضحت الطرق الدنيئة التي تم اللجوء إليها لقمع المتظاهرين من تعذيب وقتل. إنّ دور الكتابة هو التنبيه إلى هذا الوجه الدموي للتاريخ، وإلى الوجه الدنيء للسلطة التي لا تملك حتى شجاعة مواجهة الضحية وجهاً لوجه، بدل رميه بالرصاص في الظهر:
"هذه هي الهفوة التي نرتكبها، نحاول التستر بالصمت الجبان، ونقول إنّ الأمر لا يعنينا.. لذلك ما زلنا نتخبّط في العالم الثالث.. ما زلنا نرى الظلم يتغذّى ويتعشّى بيننا ولا نحرك ساكناً.. ما زلنا نرى الجثث تسقط أمامنا ونمرّ وكأنّ شيئا لم يكن، وكأنّ هذه الدماء ليست دماء جزائرية تسيل من دون أن نعرف السبب، ولا من وراء كل هذا الخراب".
إنّ المأساة الحقيقية، هي إدارة الظهر للحقيقة، والاستمرار في الحياة وكأنّ شيئاً لم يحدث، بل لا بد من طرح الأسئلة، ومواجهة السلطة بالحقيقة، إذ نجد في كلام البطلة إدانة أخرى للذات التي وبسبب ما، قد يكون هو الخوف من السلطة، وقفت لعقود صامتة أمام الحقيقة.
تجب كتابة ذاكرة جديدة متخلصة من أوزار الخوف، وستكون الرواية إحدى الأدوات القادرة على صناعة تلك الذاكرة. النسيان، ليس ظاهرة طبيعية، بل هو من صنع الأنظمة القمعية، التي لا توفّر أية وسيلة لقمع الحريات، وتوجيه الرأي العام نحو أنصاف الحقائق، بل والعمل على تشويه التاريخ، من خلال المناهج التربوية في المدارس، ومن خلال الإعلام الرسمي.