الراقص السوري بين العار وهاملت

12 يوليو 2016
عمل لماتيس(ويكبيديا)
+ الخط -
تنتصر مقولة سارتر، الآخرون هم الجحيم في رواية "العار" لتسليمة نسرين، على مقولة زيغلر السويسري: "أنا الآخر، والآخر أنا"، ففي فضاء بشري مشبع بالأنا الماحية لكل آخر، وكارهة لها إلى حد استئصالها، تذوب الحدود الفاصلة بين الهوية الجزئية والكينونة، ولا يعود بوسع "سورنجان" (؟) أن يشكل ملامحه الداخلية وفق رغباته، وإنما وفق تصورات الآخرين عنه، بوصفه فرداً في إثنية دينية، أو عرقية، ويتحول وفق ذلك إلى موسوم بوشم بارز لا يستطيع انتزاعه، ولا إخفاءه.
"أردت أن أكون إنساناً، ولكنهم أجبروني على أكون هندوسياً"، هذا ما يقوله سورنجان (؟) بطل رواية العار للكاتبة تسليمة نسرين، وهو ابن الطبيب المعروف، والذي تلقى مع أخته "نيلانجانا" تربية علمانية، ولهما كلاهما صداقات واسعة مع أقرانهما من المسلمين، كما مع الهندوس، وكانت العائلة قد رفضت الانتقال إلى الهند، بعد انفصال بنغلادش، رغم المحاذير من البقاء.
كان سورنجان قد حدد هويته في فضائها الأوسع، تلك الهوية التي لا تتعارض مع الآخرين في كينونتها، لا تجد الآخر المغاير عدواً، بل نداً.
واختار هوية يتسامى فيها الحد المفتوح بإنسانيته مع هويات جزئية، هوية تتفاعل مع الهويات الأخرى، من دون أن تدفع إلى إلغائها، ضمن مشهد له طابع التعددية والغنى، ولا تنزع إلى فرض أحاديثها في الفضاء المتعين، بل تكتسب جمالها من موقعها وتشكيلتها للهارموني الكلي، ولكن ما العمل؟ وقد تحولت الهويات المتعددة إلى عامل نزاع دموي بفعل الكراهية، وغدت صراعاً وجودياً من شأنه أن يقود إلى الإلغاء والعدم.
هكذا وجد سورنجان نفسه في فضاء لا يعترف بهويته الواسعة التي ينتسب إليها، لا يعترف إلا بهوية جزئية مفروضة عليه بيولوجيا، ولا شأن له في اختيارها، شاء له القدر أن يحملها، كما
شاء القدر لسواه أن يكونوا بهوياتهم البيولوجية، أو الجزئية.
لا تتعين هوية سورنجان وفق رغبته، فالظروف المحيطة به، عامل فاعل في تحديد المسارات الخارجية والداخلية. وهو، هنا، يفترق عن "هاملت" الذي يدلف إلى مفتاح كينونته من بوابة حسمه للصراع الداخلي مع ذاته، "أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة"، فالكينونة عند هاملت لا يعيقها الظرف الخارجي بمقدار ما يعيقها التردد الداخلي، والكينونة عند هاملت مرتبطة بواقع ارتقائها إلى فعل حاسم يجسد الوصول إلى كشف الحقيقة ومفاعيلها العادلة، تحقيقاً للثأر من قاتل والده ومغتصب عرشه وسريره.
المحيط لا يعيق هاملت، ولا يدفعه إلى أن يكون سواه، هاملت يعرف من سيكون وماذا سيكون، لديه القدرة والرغبة، وهما في طور تشكلهما الداخلي، على عكس "سورنجان" الذي لا يملك من الأمر سوى الرغبة العزلاء أمام مجتمع متّقد بالكراهية والعنف.
فيما سورنجان لا تتهشم رغبته أمام الظروف الصعبة فقط، بل يفقدها ليستبدلها بالقميص الذي تم إلباسه إياه بالقوة، أو تم دفعه إليه. فامتناع تحقيقه هويته الإنسانية التي اختارها واعيا، أفقده الرغبة فيها، بل واستحالت بعد فشلها، في داخله، إلى نقيضها، وحلت محلها الكينونة المتطرفة: "أنا أيضاً أريد سواطير وخناجر ومسدسات وقضبانا حديدية...".
وبالانتقال من "سورنجان" و"هاملت" كشخصيتين في عالم الأدب، إلى شخصية واقعية عاشت مأساتها، محاولة إثبات كينونتها في عالم فاجر، نجد "حسن رابح" الراقص السوري الذي رمى بنفسه من شرفة غرفته في لبنان، واضعاً الحد لحياته، كحالة وسطية، ما بين "هاملت" و"سورنجان".
ربما، من المستبعد أن يكون حسن رابح قد صرخ بمقولة هاملت حرفياً، وهو يهوي إلى الأرض، ربما لم تكن في قلبه التعيس آنذاك، لكن قفزته تلك كانت تجسيداً عملياً لها، أراد أن يكون، ولم يستطع، كانت الرياح أقوى من سفينته، فاستحالت حياته بين عدمين: عدم معاش مع الألم والقسوة والعذاب، وعدم النهاية الفاجعة التي اختارها.
فضّل حسن رابح، العدم الخالي من العذاب الآني، على عدمية مشحونة بالسلب والقهر، في ظل تلاشي الكينونة وامّحائها، لم ينجز كينونته كـ"هاملت"، ولم ينكص عنها إلى نقيضها كـ"سورنجان"، واكتفى بشطبها من الوجود.
دلالات
المساهمون