يبدو أن مرحلة جديدة تدخلها موسيقى الراب في تونس، تعلن بها عن توسيع قاعدة جماهيرها. قد يكون الأمر جيّداً بالنسبة لروّاد ومحبّي هذا النوع من التعبير الموسيقي، ولكننا بتنا في مواجهة خطر يحدق بالناشئة وبالأطفال ويهدّد معايير التربية الفنية.
افتتح هذه المرحلة مغنّي الراب التونسي "بلطي"، وهو أحد أشهر روّاد هذا النمط الموسيقي ومن بين أكثرهم إنتاجاً. تعوّد "بلطي" التنويع في تجربته مع موسيقى الراب، بين أداء أغاني الأفلام، واعتماد أغنية وترية مشرقية لفنانة تونسية كخلفية موسيقية لإحدى أغنياته عوضاً عن النماذج الموسيقية الغربية التي يتم اعتمادها عادة، وصولاً إلى التعامل الثنائي مع فناني "المِزود" (أغنية "قالولي ما تجي" مع زينة القصرينية وأداء جنيريك أحد المسلسلات التونسية مع الفنان الشعبي سمير لوصيف)، وهي تجربة فريدة من نوعها في هذا النمط الموسيقي بالذات، لم يقدم عليها أيٌّ من فناني الراب الآخرين. لقد سعى "بلطي" إلى التنويع في تجربته الموسيقية وإلى الخروج عن النمطية بالإقدام على خطوات مختلفة عن زملائه.
ربما يبدو الأمر جيّداً إلى حد الآن. مسيرة فنان شاب يحاول البحث عن أشكال جديدة لتوظيف موسيقاه وطرق أبواب جديدة. كأنه يسعى بذلك للحفاظ على مكانته كأحد روّاد الراب التونسي وإثبات جدارته بذلك. ولكن مؤخراً أنتج أغنية جديدة قدّمها مع الطفل حمودة وعنوانها "يا ليلي".
هنا، يبدو أن "بلطي" وكأنه لم يكتفِ بما وصل إليه من شهرة لدى فئات الشباب التونسي، الأمر الذي دفعه إلى توسيع قاعدته الجماهيرية من خلال تجربة جديدة خاضها مع طفل صغير في العاشرة من عمره تقريباً. حققت الأغنية لـ "بلطي" نجاحاً جماهيرياً جديداً، إذ حققت نسبة مشاهدات عالية في يوتيوب، وتبثّ في إذاعات عالمية، ولكن لا يمكن أن نقف فقط عند هذا النجاح ونتجاهل خطورة هذه التجربة على الأطفال اليوم وعلى مجتمع الغد.
لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الأغنية تمثّل إحدى أخطر الوسائل الخطابية التي تهدّد الطفولة التونسية والعالمية. فبالعودة إلى نشأة الراب نجد أنه ظهر للدفاع عن قضايا الشباب المهمّش في الأحياء الفقيرة، وهي قضايا لا تخرج نمطياً من دائرة "الزطلة" (المخدّرات) و"الحرقة" (الهجرة غير الشرعية) والسجن والعنف المجتمعي وما يشبهها من مجالات سقطت ضحيّتها شرائح من الشباب نتيجة تهميش السياسات. ولكن ما ذنب الطفولة لنقحمها في مثل هذه القضايا؟
إن إدخال الأطفال إلى هذا العالم المتّسم بالعنف يمثّل تعدّياً صارخاً على طفولتهم وبراءتهم وحقّهم في التنشئة السليمة والمتوازنة، ثم إن أداء طفل لأغنية راب يشرّع استهلاك الأطفال لهذا النمط الموسيقي المتّسم بعنف الخطاب والصورة، ما يمثّل تهديداً لسلامة تربيتهم الموسيقية والذوقية وحتى الأخلاقية.
لا نتّهم بذلك فن الراب جزافاً بإفساد المجتمع ولكن هذا النمط بخصوصياته الدقيقة وبطابعه المختلف عن الأنماط الموسيقية الأخرى يصبح خطراً متى صار موجّهاً إلى فئة عمرية هشة. وما قام به "بلطي" ليس الاكتفاء بالتوجّه للأطفال وإنما جعل الطفل منتجاً لهذا النمط. وقد أعلن "بلطي" عن نيّته تبنّي هذا الطفل موسيقياً بل إنه جهّز له أغنية خاصة به، وبهذا يدخل الراب مرحلة جديدة مع ظهور فاعلين جدد يتيحون له اقتحام عالم الأطفال.
تشير هذه التجربة إلى زاوية من حالة الانحلال الثقافي الذي تعيشه تونس بدعم من جزء من المشهد الإعلامي. فعوض أن يتربّى الأطفال مع أغانٍ مخصّصة لهم تكون ذات مضامين تربوية تزرع فيهم القيم النبيلة ورفعة الأخلاق وحبّ الحياة؛ يقدّم لهم خطاب من قبيل "يحبّوا يقصّولي جناحي" (يريدون أن يقطعوا أجنحتي).
* باحثة في العلوم الموسيقية من تونس