الذي رأى المرايا محتشدة بالناس

26 ابريل 2015
صادق الفراجي/ العراق
+ الخط -
[لم يخطر ببالي مرةً وأنا أقرأُ، أو أعيد قراءة "إدواردو غاليانو"، أنه يمكن أن يموت، على الأقل في هذا العمر القليل وإن بدا شاسعاً. فمن يكتب، لا يموت، تماماً كما قيل عن أولئك الذين يستشهدون على أبواب بيوتهم ومدنهم وعلى طرقات طفولة أوطانهم، اولئك الذين ينطفئون فجأة كما تنطفئ شمعة في نافذة، أو مصباح في زاوية غرفة أليفة، ويظل شيء عالق منهم في الهواء والذاكرة والأعماق التي لا تطالها نهاراتنا المعتادة، ولا يمرّ بها الزمن.

فما بالك بمن روى وسرد سرداً دالاً قصص الحياة كما تبدو حين ننظر إليها من المهاد؛ نقية من كل ما علق بها من أوشاب، القراصنة والأباطرة وصغار الملوك ومن تاريخ تطفل عليه مزورون وكذبة من كل الأجناس؟

كم كان ممتعاً أن يسرد "غاليانو" حكاية قيلت مراتٍ ومرات، قرأناها أو سمعناها، ثم يكتبُ، كأنما على هامشها، أن أحداثها لم تكن كما قيل وتناقلته الألسن والأقلام. كم كان ممتعاً أن تحدث لحظة التنوير في نهاية الحكاية، أو تتوالى أمثال هذه اللحظة من سطر إلى آخر، وتتواصل حتى حين ينتهي النص. فيظل خيالك راحلاً وراء سرد يشبه خيط أغنية تتذكر أنها كانت في يوم من أيامك، أو في كتاب تركته على مقاعد الدراسة، أو أصغيت إليها وهي تتناهى إليك من شفتي امرأة، قد تكون أمك أو أم أحد أصدقائك.

هذه كتابة كاشفة تحمل تحدياً، نوع مركّبٌ من شعر ونثر ورواية وتحليل اجتماعي وسياسي، يقصُّ علينا حكاياتِ كل الجنس البشري تقريباً من دون تمييز، مترحلاً من عصور ما قبل التاريخ، مروراً بما هو "تاريخي"، وصولاً إلى الحاضر. متردداً بين ماهو انطباعي وما هو موثق، ببساطة متناهية، بين أكثر الناس نبلاً وأكثرهم انحطاطاً، متحيزاً للشعوب التي ضحت من أجل أن تتقدم شعوب المستقبل حتى من دون أن تعرف عنها شيئاً.

أفضل تقديم لهذا الذي رأى المرايا محتشدة بالناس، أن تقدمه كلماته، أن تترجم إلى لغتنا، أن يتعرف عليها أطفالنا وكبارنا، ليس لأن لنا، أفراداً وشعوباً، نصيب في هذه الحكايات، ولنا نصيب وافر فعلاً، بل لأنه حوّل بسردهِ الساحر كل حكاية لتصبح حكايتنا، وكل جغرافية لتصبح جغرافيتنا، وكل تنوير ليصبح تنويراً لنا. هو القريب منا إلى درجة لاتصدق. هل لأنه تحدث عنا وتساءل حين كتب: "يرانا غير المرئي، يتذكرنا المنسيّ، ونراهم حين نرى أنفسنا، وحين نبتعد عنهم، هل يبتعدون؟" (م. أ)]  



أصل الكتابة

حين لم يصبح العراق عراقاً بعد، كان مكان مولد أول الكلمات المكتوبة. كلمات بدت أشبه بآثار خطوات الطير رسمتها الأيدي الماهرة على الطين بأعواد قصب مسننة.

النارُ تهلك وتنقذ، تقتل وتحي، كما تفعل الآلهة، وكما نفعل. النارُ جعلت الطين صلباً وحفظت الكلمات. بفضل النار ما تزال الألواحُ الطينية تروي ما روته قبل آلاف السنوات في أرض الرافدين تلك.

في أيامنا هذه، شن جورج دبليو بوش حرباً تمتع بها وأفلتت من العقاب لإنهاء العراق، ربما اعتقاداً منه بأن الكتابة أخترعت في تكساس. وكان هناك آلاف آلاف الضحايا. لم يكونوا كلهم من لحم ودم؛ لقد قتل قدرٌ عظيم من الذاكرة أيضاً. وسُرق تاريخ حيّ على شكل ألواح طينية عديدة، أو دمرته القنابل.

قال لوحٌ من الألواح:

نحن ترابٌ.. ولا شيء

كل ما نفعله ليس أكثر

مما تفعله الريح.



الحجر الذي يتكلم

حين غزا نابليون مصر، وجد أحد جنوده على ضفاف النيل حجراً أسود كبيراً تغطيه رموز منقوشة على سطحه.

سموه "حجر رشيد"

وقضى "جان فرانسوا شامبليون، أحد طلبة اللغات الميتة، شبابه يلف ويدور حول الحجر.

حجر رشيد ينطق بثلاث لغات. تم فك شيفرة اثنتين منها. ليس الهيروغليفية المصرية.

وظلت كتابة مبدعي الأهرامات لغزاً،

كتابة مقدسة تناولها الكثير من التعليقات: هيرودوتس وسترابو وديدوروس وهورابلو، تظاهروا جميعاً أنهم يترجمونها ويشرحونها وهم في طريقهم، كما فعل الراهب الجزويتي إثناسيوس كيرتشر الذي نشر كتاباً بأربعة أجزاء من الهراء.

كلهم اعتقدوا أن الهيروغليفية نظامٌ من الصور الرمزية، وأن معانيها تختلف باختلاف تخيلات كل مترجم.

هل هي رموز خرساء، أم أن آذان البشر صماء؟

طيلة سنواتٍ وسنواتٍ ظلّ شامبليون يمطر حجرَ رشيد بالأسئلة، ولم يتلق سوى الصمت العنيد رداً. وذات يوم، وقد أنهكه الجوع والإحباط، فكر بإمكانية لم يتبينها أحد من قبل: افترض أن الهيروغليفية كانت أصواتاً مثلما هي رموز أيضاً؟ افترض أنها كانت شيئاً يشبه حروفاً أبجدية؟

في ذلك اليوم فُتحت المدافن، وتكلمت المملكة الميتة.



صدى

في الأزمنة القديمة عرفت الحورية "صدى" كيف تتكلم. ونطقت نطقاً بلغ من السمو حدّ أن كلماتها بدت جديدة دائماً، لم يتفوه بها أحد من قبل أبداً.

ولكن الآلهة "هيرا" زوج "زوس" الشرعية، لعنتها إثناء نوبة من نوبات غيرتها، وعانت "صدى" من أسوء عقاب: حرمانها من صوتها.

ومنذ ذلك الزمن وهي غير قادرة على الكلام، لا تستطع سوى تكرار ماتسمع.

تلك اللعنة تبدو في هذه الأيام فضيلة من الفضائل.



البطل

كيف سيروي جنديٌّ مجهول قصة حرب طروادة؟ جندي مشاة يوناني أهملته الآلهة، ولم ترغب به سوى النسور التي حوّمتْ فوق ساحات المعارك؟ مزارع مقاتل لم يرتل أحد عنه نشيداً، ولم ينحت له أحد  تمثالا؟ هو واحد من عديدين أجبر على القتل، ومن دون أدنى مصلحة له بأن يُقتل، ليحظى بنظرة من عينيّ "هيلين"؟

هل كان ذلك الجندي يملك أن يتنبأ بما أكّده "يوريبيدس" لاحقاً؟ أن "هيلين" لم تكن في طروادة أبداً، بل كان ظلها هناك فحسب؟ وأن عشر سنوات من المذابح حدثت من أجل عباءة خالية؟

ماذا سيتذكر ذلك الجنديّ لو قيض له أن ينجو؟

من يدري؟

ربما الرائحة، رائحة الألم، لاغير.

بعد سقوط طروادة بثلاثة آلاف سنة يخبرنا المراسلان الحربيان، روبرت فيسك وفيران سيفلا، أن الحروب منتنة.

شهد المراسلان بعضاً منها، من الداخل، ويعرفان رائحة التعفن اللزجة الساخنة العذبة، تلك التي تدخل في مسامك وتقيم في جسدك

ولا يزول الغثيان أبداً.



فن رسمك

على فراشٍ بجوار خليج كورنثة، تتأمل امرأةٌ في ضوء لهب مدفأة الصفحة الجانبية لوجه حبيبها النائم.

على الجدار يترجرج ظلهُ

الحبيبُ المتمدد بجوارها سيرحل. سيرحل مع الفجر إلى الحرب، إلى الموت. وظلّه، رفيق رحلته، سيرحل معه، وسيموت معه.

لازال الظلام مخيماً. المرأة تتناول قطعة فحمٍ من بين الجمر

وترسم على الجدار خطوط محيط ظلّه

هذه الخطوط لن ترحل.

لن تعانقها، وتعرف هذا، إلا أنها لن ترحل.



هيباشا

للحطّ من قيمة حريتها قالوا عنها:" إنها تخرج مع أي شخص".

لامتداح ذكائها قالوا عنها:" هي ليست كأي امرأة".

ولكن من أجل سماع كلماتها، جاء عدد كبير من الأساتذة والقضاة والفلاسفة والسياسيين من أماكن بعيدة إلى مدرسة الإسكندرية.

درست "هيباشا" الألغاز التي تحدّت إقليدس وأرخميدس، وتكلمت علناً ضد الإيمان الأعمى الذي لايستحق حبّ السماء أو حبّ البشر.

وعلّمت الناس أن يشكّوا ويسألوا. ونصحت:

"دافعوا عن حقكم في التفكير. التفكير الخطأ أفضل من عدم التفكير بالمطلق"

ماذا كانت تلك المرأة المنشقّة تفعل بإعطائها دروساً في مدينة يدير شؤونها رجالٌ مسيحيون؟

أطلقوا عليها تسمية ساحرة ومشعوذة. وهددوها بالموت.

وذات ظهيرة يوم من أيام شهر مارس سنة 415، هاجمتها جمهرة من الغوغاء.

وسُحبت من عربتها، وجُرّدت من ملابسها، وجُرّت في الشوارع، وُضربت وطُعنت. وفي الساحة العامة أضرمت النار بكل ما تبقى منها.

وقال حاكم المدينة" سيكون هناك تحقيق".



أم كل الروائيين

قتل ملكٌ من الملوك النساء جميعاً لينتقم من امرأة خانته.

تزوج عند الغسق وترمل عند الفجر.

وفقدت العذراواتُ، واحدة بعد أخرى، عذريتهن ورؤوسهن.

شهرزاد هي الوحيدة التي نجت من الليلة الأولى، ومن يومها واصلتْ مبادلة كلّ نهار حياة جديد بقصة.

وحمتها قصص سمعتها أو قرأتها أو تخيلتها من أن يُقطع رأسها. روت قصصها بصوت خافت في عتمة غرفة النوم، من دون ضوء سوى ضياء القمر. أمتعتْ وتمتّعت وهي تروي، ولكنها كانت تخطو بحذر.

شعرتْ أحياناً، في منتصف حكاية، بعينيّ الملك تتفحصان رقبتها.

لو شعر بالملل، لضاعت.

من خشية الموت تنبع موهبة القص.   



القديس فرنسيس الأسيسي

طوّق الصليبيون مدينة "دمياط" المصرية في العام 1219. وفي غمرة الهجوم غادر "الأب فرنسيس" موقعه وبدأ يمشي وحيداً حافي القدمين نحو معقل العدو. كنست الريحُ الأرض، وعاكستْ عباءة هذا الملاك النحيل التي بلون التراب، الهابط من السماء، الذي أحبّ الترابَ كما لو أنه من التراب نبت.

ومن مسافة بعيدة شاهدوه يتقدم. قال أنه جاء ليتحدث مع السلطان "الكامل" عن السلام.

لم يمثل فرنسيس أحداً، إلا أن الجدران انفتحت أمامه.

القوات المسيحية انقسمت إلى فريقين. اعتقد فريقٌ أن الأب فرنسيس مجنون مثل أي ريفي أخرق، واعتقد الفريق الآخر أنه غبي مثل حمار.

كل امرئ كان يعرف أنه خاطبَ الطيرَ، وأنه أحبّ أن يدعى "مغنّي الربّ"، وأنه مارس الضحك ووعظ به، وأنه قال لإخوته الرهبان:

"حاولوا ألا تبدو محزونين أو متجهمين أو منافقين"

وقال الناس أن النباتات في حديقته في مدينة "آسيسي" نمت مقلوبة، فهي تمدّ جذورها إلى الأعلى. وعرف الناس أن الآراء التي نطق بها كانت مقلوبة أيضاّ. فقد اعتقد أن الحرب، مهوى أفئدة الملوك والبابوات وحرفتهم، كانت مفيدة للفوز بالثروات، ولكنها غير مفيدة للفوز بالأرواح. وأن الحملات الصليبية انطلقت، لالهداية المسلمين، بل لإخضاعهم.

واستقبله السلطان بدافع الفضول، أو من يدري بماذا؟

وتبارز المسلمون والمسيحيون بالكلمات لا بالسيوف. وخلال حوارهما الطويل، لم يصل المسلم والمسيحي إلى اتفاق، ولكن كل واحد منهما أصغى إلى الآخر.



ماركو بولو

كان سجيناً في "جنوة" حين أملى كتاب رحلاته. وصدق رفاقه في السجن كل كلمة. وحينما كانوا يصغون إلى مغامرات "ماركو بولو"، حين كان في سن السابعة والعشرين يتجول على طرقات الشرق، فرّ كل واحد منهم، كل سجين، وارتحل معه.

بعد ثلاث سنوات نشر السجين الفينيسي السابق كتابه. وكلمة "نشر" مجرد تعبير، لأن المطبعة لم تكن قد ظهرت في أوروبا بعد. وتم تداول بضع نسخ بخط اليد، ولم تصدق القلة من القراء التي وجدها ماركو بولو شيئاً مما قال.

لابد أنه كان يهلوس: فكيف تطفو كؤوس الخمر وترتفع نحو شفتي الخان الأكبر من دون أن يلمسها أحد؟ وكيف يمكن أن يساوي ثمن شراء بطيخة من أفغانستان ثمن شراء امرأة؟ وقال الأكثر تسامحاً منهم أن الكاتب التاجر لم يكن سليم العقل.

بجوار بحر قزوين، على الطريق القادم من جبل آرارات، شاهد هذا المتحمس المصاب بالهذيان زيتاً يشتعل، ثم شاهد في جبال الصين حجارة تلتهب. وأسخف ما جاء به في أحسن الحالات، زعمه أن لدى الصينيين عملة نقدية من ورق تحمل ختم الإمبراطور المغولي، وتلك السفائن التي تحمل آلاف الناس. وأثار ذكره للحيوان الخرافي الأحادي القرن في "سومطرة"، ورمال صحراء "غوبي" التي تغني، القهقهات. وكانت تلك المنسوجات التي تلقى في النار ولا تحترق، والتي وجدها ماركو بولو وراء "تاكلاماكان"، أمراً، بكل بساطة، غير قابل للتصديق.

وبعد قرون لاحقة تبين:

أن الزيت الذي يشتعل كان النفط

أن الحجر الذي يلتهب كان الفحم

أن الصينيين استخدموا العملة الورقية طيلة 500 عام

وأن في سفائنهم، التي يبلغ حجمها عشرة أضعاف حجم السفائن الأوروبية، حدائق توفر للبحارة الخضراوات الطازجة التي تقيهم من مرض الإسقربوط، وأن الحيوان الخرافي كان وحيد القرن. وأن الريح تجعل قمم الكثبان في الصحراء تنتحب،

وأن النسيج المقاوم للنار مصنوع من مادة الإسبستوس.

في زمن ماركو، لم تعرف أوروبا شيئاً عن النفط أو الفحم أو النقود الورقية أو السفائن الكبيرة أو وحيد القرن أو الكثبان الرملية العالية أوالإسبستوس.


* تقديم وترجم: محمد الأسعد

** من "مرايا: قصصُ كل امرئ تقريباً" عن دار نيشن بوكس، نيويورك، 2009
دلالات
المساهمون