الديمقراطية والحلبة

26 ديسمبر 2019
+ الخط -
كثيرا ما يُنظر إلى المسألة الديمقراطية إما من جهة معرفيّة (سيرورة تعلّمها)، أو من جهة سياسيّة (كيفيّة تحقّقها)، أو من جهة سوسيولوجيّة (الفاعل الاجتماعي)، وتُهمل ميادينها ومساحاتها الجغرافيّة والاجتماعية والرّمزيّة، والتي أسمّيها الحلبة في هذا النّصّ. ويمكن أن تكون الرّحبة إذا شئنا تعريبها. هذا ما يتم الدفاع عنه هنا: نجاعة الساحات العامّة والشّوارع من جهة قدرتها على تطوير معرفة عمليّة تفسح المجال بالتّدريج أمام وعي ديمقراطيّ ممكن: الميدان في مصر، شارع بورقيبة في تونس، جبل أحد في العراق. ولكن لماذا الحلبة؟ حتّى تنشأ ديمقراطيّة عربيّة مخصوصة تخرج من رحم التجربة التاريخية والخصوصيات الثّقافيّة والتركيبات الاجتماعيّة. وتزداد أهمّيتها، خصوصا بعد تقلّص نفوذ الأحزاب السيّاسيّة في استيعاب التعبيرات الاجتماعيّة الجديدة. ومن دون هذه السّاحات العامّة، قد يكون من الصّعب إيجاد نقاش عام حرّ وعقلانيّ وعلنيّ. ولأنّها تاريخياً مراقبة، أو مفتكّة، وفي الحدّ الأدنى متقلّصة، فقد ظهرت حلبات افتراضيّة، هذه المرّة، يصعب توقّع مآلاتها، لأنّ كلمة السّر فيها بيد فاعلين جدد من الشّباب، وليس للمثقّف والفيلسوف فيها إلّا هامشٌ غير مؤثّر من النّفوذ المعرفي، ومن القدرة على المساهمة في تشكيل هذا الوعي. هذه إحدى مشكلات الاحتجاج الافتراضي، فعلى الرغم من قوّة تأثيره وفعاليته وقدرته الإنجازيّة المؤقّتة، يظلّ موسوما بخفاء الاسم، ومشوّها بضربٍ من التواصل غير الأخلاقي من قبيل "الذّباب الإلكتروني"، وما فيه من حملات وصْمٍ وتجاوزٍ لمعايير الصّراع الحرّ والعقلاني. الكلّ يشارك في الحلبة الافتراضيّة حتّى "الحمقى والأغبياء" بلغة السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو، هؤلاء الذين كانوا لا يتكلّمون إلّا في الحانات، وبعد تناول كأس نبيذ صار لهم صوت وصدى، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنّه "غزو الحمقى" كما يسمّيه إيكو، فالتصوّر العقلاني للإرادة العامّة والنّقاش النقدي اللذين أشار إليهما هابرماس في الفعل التواصلي مفقودان في ما أسمّيه الحلبة الافتراضيّة. لذلك، تبدو الحلبة الواقعيّة أكثر نجاعةً أخلاقيّةً من الحلبة الافتراضيّة. ومن جهة الرّقابة، تبيّن أخيرا أنّ الافتراضيّ أخطر بكثير من الواقعي في مسألة الرّقابة، ولعلّها وصمة الأزمنة الحديثة التي لا تترك حيّزا للتّنفّس خارج الرّقابة حتّى قليلا. لذلك سيكون من المفيد حماية السّاحات
الاجتماعيّة العامّة بوصفها فضاءً للتّفاعل وإيجاد الرأي العام، بعدما تبيّن عجز الأحزاب السّياسيّة عن استيعاب التعبيرات الثّوريّة الجديدة. 
ثمّة مرورٌ صعبٌ إلى الديمقراطيّة في الدول العربيّة الثائرة، والسّبب أنّ التّداول على السّلطة سلميّا لم يعرفه العرب من قبل، ولا وجود في رحم ثقافتهم لما يشرّع هذا التّداول، بل إنّ مفهوم الطاعة هو السائد في الحكم، ولطالما كان مبرّرا يستعمله الحاكم لاستدامة حكمه. ولم نشهد، منذ أوّل تأسيس للمدينة العربيّة الإسلاميّة، ما يمكن أن يسمح بنشأة ممكنة لما يسمّى "الفضاء العام"، الذي يناقش فيه النّاس الشأن العام بطريقةٍ حرّة وعقلانيّة. حتّى السّاحات العامّة التي كان يمكن أن تنتج نوعا من التفاعلات الاجتماعيّة الحرّة كانت دائما مراقبة ومحاصرة بين القصر والمسجد. هكذا نشأت أوّل مدينة عربيّة إسلامية في الكوفة حول المسجد تحيط بها رحبة تليها قصور قادة الجيش والرّموز السّياسيّة والدينيّة التي شاركت في معركة القادسيّة. وواضح أنّ الرّحبة كساحة عامّة كانت تتوسّط الديني والسّياسي، ما يجعلها عديمة الجدوى من جهة قدرتها على إيجاد نقاش عام، وقبل ذلك كان سوق عكاظ فضاءً لا يقال فيه الشّعر إلّا لمديح زعماء قريش. أمّا عند البربر فقد وُجد مجلس قرويّ مخصّص لحلّ مشكلات القرية بمشاركة الكبار وحدهم، ويبدأ مداولاته بعبارة: "حضروا الرّجال الكبار". أمّا صغار السّن فيكتفون بالحضور وجمع الحصى علامة على الموافقة، ونثره في حالة الرّفض. معنى هذا أنّ الساحات وحلبات النّقاش، تاريخيا، كانت منظّمة ومراقبة، بحسب إرادة المهيمن، وبنوع من التراتب العمودي. يَعرِف المهيمنُ، بحدسه السّياسي، أنّ السّاحات العامّة والشّوارع غير المراقبة أكبر خطرا على حكمه. لذلك تُراقب وتُفتّك باسم 
الصّالح العام، وتتقلّص في الحدّ الأدنى. وها إنّنا نلحظ اليوم خطورتها وقدرتها على إحداث التّغيير.
لنأخذ المثال التونسي، فمنذ 1978 كانت كلّ المظاهرات الاحتجاجيّة تنطلق من شوارع وساحات مختلفة وتحاول اقتحام شارع بورقيبة، وكان النّظام يقدر كلّ مرّة على صدّها حتّى بالقتل، كما حدث يوم 3 يناير/ كانون الثاني 1984، وكنت شاهد عيان. أمّا حين اقتحموا هذا الشّارع التاريخي، مقرّ وزارة الدّاخليّة بلونها الرّمادي القاتم، انتبهوا إلى أنّ ما يحدث ليس مألوفا، حينها ارتفعت الأصوات معلنة لفظ "الثّورة".
هذه هي فكرة هذا المقال، إبراز دور السّاحات العامّة والشّوارع في إيجاد وعي ديمقراطي. ولكن ليس معنى هذا أن لا قيمة للتّربية وللمعرفة وللمقاربات السّياسيّة في تحقيق مثل هذا الوعي. هذا تقريبا معروف، ولكن الغائب عن الاهتمام هو قوّة الساحات العامّة على إنتاج تفاعلات اجتماعية احتجاجيّة، وعلى اكتساب معرفة عمليّة بالديمقراطيّة، لعلّها أكثر نجاعةً من المدارس ووُرش التّدريب. وقبل هذا وبعده تبدو التربية على الديمقراطية، والطّفل لا يزال في المهد مسألة ملحّة أيضا، فيكبر الصبيّ رجلا، وتكبر معه قيم الحريّة وسلوك الانتخاب وقبول المختلف، فلا يكتفي بتجميع الحصى موافقةً، أو نثره رفضًا. وهذا ما بدأته تونس منذ ثلاثين سنة (مع الوزير المستقل محمد الشرفي)، حين أُدرجت مادّة التربية المدنية مقرّرا أساسيّا في المدارس لتعليم الطّفل قيم المواطنة وحقوق الإنسان والتّداول على السّلطة، لتخفيف وطأة براديغم (نموذج) الطّاعة الذي ترسخّ في الثقافة على مدى الزّمن الطّويل. الفترة وجيزة لترسيخ قيمٍ كهذه، ومع ذلك استطاع هذا الجيل أن يستعيد السّاحات العامّة فافتّك الكلمة، ولكنّها لم تترسّخ بعد مسارا. وأفترض أنّ بناء حياة ديمقراطيّة عربيّة يقتضي المرور بما يمكن تسميته المثلّث الديمقراطي، ويتكوّن من ثلاثة أضلع، أوّلها الثّقافة (التربية، المعرفة، القيم)، وثانيها السّاحة العامّة (المعرفة العمليّة عبر التفاعلات الاجتماعيّة غير المراقبة)، وثالثها التنظيم (الجانب الإجرائي المؤسّسي). ولأنّ السّاحات العامّة مفتكّة ومحاصرة من الدّولة، فقد جاء هذا الجيل الذي لا يعترف، إلى هذا الحدّ أو ذاك، ببراديغم الطّاعة، ثمّة ساحات عامّة افتراضيّة لا يعرف الكبار كلمة السّرّ فيها. ولكنّهم لم يستطيعوا الاستمرار بسهولة، لأنّ الضّلع الثالث من المثلّث، أي المؤسّسات، ليس سهلا تطويعه بين عشيّة وضحاها، فكان لا بدّ من هذه الانتكاسات التي تحدث اليوم.
تحتاج الديمقراطيّة ثقافة ديمقراطية، وديمقراطيين، هذا صحيح، ولكنّها تحتاج أيضا إلى ساحات عامّة تُنسج فيها التفاعلات، وفي آخر المطاف، إلى مؤسّسات تنظّم مختلف الخيارات، وإلّا فإنها ستظلّ كما كانت في بداياتها ديمقراطيّة الأقوياء. هذه هي فرضيتي الأولى، والتي تؤكّد على أهميّة الميادين والشّوارع بوصفها حلبات صراعٍ من أجل الديمقراطيّة، وأظنّها أفضل مدرسة لتعلّمها وترسيخها. تفيد الفرضيّة الثانية بأنّ ما جعل الديمقراطيّة، تصوّرا وممارسة، لا تتطوّر هو حرف "الـ"، فليس ثمّة ديمقراطيّة واحدة، بل ديمقراطيات تخرج من رحم التّجربة، ومن رحم الثّقافة والتاريخ والجغرافيا كذلك، تأكيدا على مفهوم الحلبة. إنّها "مفرد مدلولها الجمع"، فلا تخضع إلى عقلانيّةٍ واحدةٍ تجعلها بمثابة نسق من التّنظيم السّياسي، يهيمن عليه منطق الأقوياء، ويختزل السّياسي في جانبه التّقني الإداري الذي يجتهد لحلّ النزاعات الاجتماعيّة ونزاع الانتماءات والهويّات. الديمقراطية في المفرد دون الجمع هي ديمقراطية صمويل هنتنغتون الذي ينتصر فقط لقيم الغرب بما هي قيم عالميّة. بهذا التّفكير تُنتخب قوى سياسيّة تمثّل ثقافةً دون أخرى، وتشرّع البرلمانات قوانين لا تنسجم إلّا مع مصلحة القلّة. فكرة علمنة الديمقراطيّة الغربيّة بقيمها هي في حدّ ذاتها تكريس للهيمنة وإلغاء أصوات الآخرين وثقافتهم ورمزياتهم. حتّى المؤسّسات الدّوليّة التي تنفق الأموال هنا وهناك لترسيخ الديمقراطيّة حسب زعمها إنّما هي تسعى إلى فرض بدائل من وجهة نظرٍ ما، ولمصلحة معيّنة. ينسحب هذا أيضا على الدّعوة إلى ديمقراطيّة تشاركيّة. والأخيرة ليست سوى وهم، لأنّها لا تكرّس ضمنا إلّا
 حضور قلّةٍ نشطةٍ تتحوّل إلى ناطق رسميّ باسم جماعة معيّنة. وما يحدث اليوم من أخذ للكلمة من النّاس العاديين فيه أيضا مقاربة خطيرة للديمقراطيّة، لأنّها بلا كوابح وبلا رؤية أو برنامج.
الفكرة ببساطة أنّ الديمقراطيّة لا يمكن أن تترسّخ بالبوارج والطائرات، بل تُبنى بالتّدريج من الأرض، من الحلبة، وعبر التجربة والخطأ وعبر المعرفة العمليّة، في الساحات العامّة مثلا. ولذلك هي مقولة نسبيّة وليست مطلقة، بل تتغيّر في الزّمان والمكان والثّقافة. لقد دخلت أميركا العراق بعدّتها وعتادها باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ثمّ خرجت والفوضى تعمّ العراق، لأنّ لا شيء يأتي من الخارج، بل يتطوّر شيئا فشيئا بالتّجربة التاريخيّة، وفي حلبات الصّراع، بما فيها من مراوحةٍ بين الخطأ والصّواب والفشل والنّجاح والتراجع إلى الخلف والتقدّم إلى الأمام. وترى هذه المقاربة البنائيّة للديمقراطية أن لا ديمقراطية بلا معرفة عمليّة، معرفة أهلها بها على نحو عملي. وأن ليس ثمّة ديمقراطية جاهزة وصالحة لكلّ زمان ومكان، لأنّها تُبنى وتُعدّل، ويتمّ ترفيعها وتهذيبها في الممارسة وعلى الأرض ومع الوقت، ويصعب أن تترسّخ بقرار ووفق رؤية موضوعيّة من الخارج. وستمكّن التجربة من الاختيار بين ما هو صالح من ممارسة وما هو غير صالح. معنى هذا أنّنا قريبون من مقاربة ريمون بودون في نظرية الاختيار العقلاني، والتي يؤكّد فيها على مفهوم الفائدة والمصلحة. بهذه المفردات، يمكن الحديث عن ديمقراطيّة مفيدة، وليس عن ديمقراطيّة تقدّم نفسها أنّها تمثّل الحقيقة الموضوعيّة. ولكنّ ريمون بودون يجانب الصّواب، حين يمدح الحسّ المشترك في كتابه "تجديد الديمقراطيّة" الذي أصدره سنة 2006، ويعتقد أنّ الأفراد المستقليّن يمكنهم، في وضعية ما، إبداع إرادة ديمقراطية عامّة، وحلول لا يقدر عليها الفاعل المتحزّب. هذا التقريظ للفطرة السّليمة عقيدة شعبويّة ما دامت تكتفي بها دون غيرها. ولعلّها هي التي أنتجت ظاهرة قيس سعيّد في تونس. هي شعبوية وخطيرة، لأنها تنفي دور النّخب المثقّفة في صياغة المشروع الديمقراطي، فتكون بذلك من جنس الكلام الذي لا يدرك آخرُه أولَه ولا أولُه آخرَه. ومع ذلك، وبصرف النّظر عن هذه الظّرفيّة السّياسيّة التي تعيشها تونس اليوم، فإنّ ما يقع فيها من اختبار ديمقراطي هو عينه ما أقصده من فكرةٍ مفادُها أنّ الديمقراطيّة تبنى بالتدريج، وبالتّجربة، وعلى الأرض، بما فيها من عثرات وتطويرات، ومن خطأ وصواب، إلى أن يتكرّس المسار الديمقراطي.
FE664C9B-6023-4118-BC58-BB17401CFF73
FE664C9B-6023-4118-BC58-BB17401CFF73
محسن بوعزيزي
محسن بوعزيزي