الدولة المصرية المتوحشة

14 ابريل 2020
مصريون ينتظرون دورهم في الحصول على مساعدة غذائية (Getty)
+ الخط -
لم يكن المصريون في حاجة لإثبات جديد على توحش السلطة الحاكمة تجاه مواطنيها. فبعد توحشها الدموي في فضّ الاعتصامات، وسجنها لكل قوى الثورة، جاء توحشها الاقتصادي بعد تطبيق صارم لبرنامج صندوق النقد الدولي، على حساب سحق ما بقي من الطبقة المتوسطة، لتقع الغالبية العظمى من الشعب تحت خط الفقر. وأخيراً جاء التعامل مع جائحة كورونا ليثبت لأكثر الناس تفاؤلاً وتأييداً، أن هذه السلطة متوحشة.

برز توحش السلطة المصرية من عدم عنايتها بالاحتراز من انتشار الفيروس، ولا سيما باستمرار السماح باستقبال السيّاح القادمين من بؤر الانتشار من الصين وإيطاليا وغيرهما، ثم إهداء مساعدات من الأدوية والكمامات إلى الغير، في وقت تتقاتل فيه الدول، بل تقطع الطريق للقرصنة على هذه الأدوات للوفاء بحاجات مواطنيها.

ثم تأكد هذا التوحش مع المغالاة في إعلان أسعار الفحص للراغبين في العودة الي أعمالهم في الخارج، واحتكار وزارة الصحة هذا التحليل، وعدم السماح بإجرائه للمشكوك في إصابتهم إلا في مراحل متأخرة من المرض، حتى إن معظم الوفيات بسبب المرض حضروا إلى المستشفيات قبيل ساعات من وفاتهم.

ولم تكلف السلطة نفسها سرعة تجهيز حجرات الرعاية المركزة وشراء أجهزة للتنفس الصناعي، رغم أن عدد حجرات الرعاية المركزة في مصر لا يتعدى 14 ألف غرفة في المستشفيات الخاصة والحكومية والجامعية، ولم نسمع عبارة "في شهر واحد فقط" من السيسي لتجديد تلك الغرف، كما هو الحال في مشروعات أخرى ينفذها الجيش.
ولم تجبر وزارة الصحة المستشفيات الخاصة على استقبال الحالات المصابة أو المشتبه في إصابتها، واستمرت المستشفيات الخاصة برفضها استقبال تلك الحالات، خوفاً من هروب زبائنها من المرضى بأمراض أخرى بخلاف كورونا.

كذلك لم تكلف الحكومة نفسها عناء مناشدة القوات المسلحة فتح أجزاء من مستشفياتها للمدنيين، ولا سيما في ظل حرص السلطة العسكرية على نفي الشائعات التي تتردد بصورة واسعة بشأن انتشار الفيروس بكثافة في صفوف القوات المسلحة، وخاصة كبار القادة، الذين أُعلنَت وفاة اثنين منهم أخيراً، ولا حتى المناشدة لتخصيص فندق واحد فقط لعزل المرضى، أو لاستقبال العائدين من الخارج، رغم فراغ هذه الفنادق لمعظم أيام العام، ولا سيما في وقت الحظر الساري حالياً.

وحتى عندما قررت الدولة أن تتظاهر بالرحمة، وخصصت مائة مليار جنيه كاملة لمواجهة تداعيات الفيروس، ذهبت هذه الأموال في مجملها الى مساندة رجال الأعمال والمصدرين، علاوة على البورصة المصرية التي أخذت 20 مليار كاملة من البنك المركزي، بالإضافة إلى 3 مليارات أخرى من بنكي مصر والأهلي المصري.

وتشير مراجعة قائمة القرارات التي أعلنتها السلطة لمواجهة تداعيات الفيروس إلى تجاهلها للطبقات الفقيرة والعمال، حيث من الواضح أن الدولة فوجئت بأن لديها عمالة باليومية، وأنها لا تمتلك قاعدة بيانات لحصرهم، وأن المقيد لديها لا يزيد على 300 ألف فقط من جملة قد تزيد على 3.5 ملايين عامل، طبقاً لبعض التقديرات.
فالدولة التي صدعت رؤوسنا بتباهيها بتبني هؤلاء العمال، ثبت أنها تقدم الدعم لأقل من 10% منهم فقط. وحتى عندما قررت أن تتظاهر بالرحمة، قررت أن تقدم لهم مساعدة استثنائية لمرة واحدة بقيمة 500 جنيه فقط (أقل من 17 دولاراً) لا تكفي لمصروفات أسرة لبضعة أيام.

كذلك تجاهلت تماماً مستحقي معاشات تكافل وكرامة الهزيلة بأي مساعدة استثنائية، وفي ذات الوقت استمرت بدعم المصدرين وحتى خلال فترة تطبيق برنامج الصندوق، لتقفز الإعانات التصديرية من 3.5 مليارات جنيه عام 2016 إلى 6 مليارات جنيه عام 2019.

وحتى الحزمة المالية التي قررتها الدولة لمواجهة التداعيات جاءت الكثير من بنودها مكررة داخل إطار مجموعة من مبادرات البنك المركزي التي أُعلنَت في فترات سابقة، وكان الغرض منها المزيد من التيسير النقدي، وإصلاح ما أفسده برنامج الصندوق من انكماش الانفاق الاستهلاكي، وتباطؤ القطاع الخاص بوتيرة مستمرة بعد تغول النشاط الاقتصادي للجيش، في ظل منافسة غير نزيهة.

وكذلك عندما تفضل البنك المركزي بإضافة الأفراد العاديين إلى مبادرة الإعفاء من الفوائد المتراكمة على العملاء المتعثرين في السداد بشرط سداد نصف المبلغ نقداً، لم تأخذ الإضافة باعتبارها وضع شروط خاصة لصغار المتعثرين - الذين لن يستطيعوا سداد كامل المبلغ نقداً - في مبالغ أقل من 250 ألف جنيه على سبيل المثال وإعطاءهم أولوية في التقسيط، فوضعتهم مع رجال الأعمال في سلة واحدة.
وحتى بعدما ظهر السيسي بعد احتجاب طويل، ليبشر بحزمة جديدة للمساندة، جاء بعضها مكرراً مع مبادرات البنك المركزي، مثل تخصيص 50 مليار جنيه لقطاع السياحة، وجاء بعضها الآخر تكراراً لما أعلن في مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجديد.

والغريب أن الدولة أخذت تروّج لزيادة قادمة في المعاشات التي قررها السيسي على أنها لمواجهة تداعيات الفيروس، ولم تلحظ أن هذه الزيادة هي المقررة اعتيادياً في كل موازنة جديدة، بل إنّ كونها 14%، أقل من الزيادة في العام المالي الحالي البالغة 15%.

وفي إعلان مدوٍّ، استجابت الدولة لنداءات الجماهير، وزادت بدل المهن الطبية للأطباء بنسبة 75%، ليتضح فيما بعد أن الزيادة تبلغ أقل من 700 جنيه للطبيب، تصل إلى أقل من 400 بعد حسم الضرائب، وأن الدولة لا تستطيع أن ترتدي رداء الرحمة والعدل، ولو تكتيكياً، خشية أن يعتاد الشعب المصري هذا الرداء.

ثم جاء إعلان مشروع الموازنة العامة للدولة الذي أقرّه أخيراً مجلس الوزراء، وكانت الملاحظة الأبرز في هذا المشروع أن التقديرات والمخصصات في مشروع الموازنة جاءت متطابقة تقريباً مع الأرقام المعلنة سابقاً قبل اندلاع أزمة الفيروس خلال الشهرين الماضيين، لتُبرز احتفاظ الحكومة بتركيزها على هدف الضبط المالي الذي تنفذه منذ 3 سنوات مالية، وتجاهلها التام بخصوصية العام المالي الجديد.

وأخيراً، جاء إعلان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي وجوب عودة أكثر من 3.5 ملايين عامل في قطاع البناء والتشييد إلى أعمالهم فوراً، مبرراً ذلك بأنهم سيواجهون الجوع، فضلاً عن أن القطاع يساهم في تشغيل 90 صناعة أخرى، ليصطف بذلك مع رجل الأعمال نجيب ساويرس الذي دعا كذلك إلى نزول العمال إلى أعمالهم، ومن يمرض منهم تعالجه الدولة، بدلاً من الدماء الاقتصادية الناتجة من العوز والجوع الناتج من الحجر المنزلي.

اصطفاف دعوة مدبولي مع ساويرس وتزامنهما تقريباً يكشفان الجزء الأخير من الوجه المتوحش للحكومة، التي تتناقض مع نفسها، فتارة تفرض حظر التجوال المؤقت، وتسهب في شرح فوائده في الحد من انتشار المرض، وأخرى تدعو إلى النزول، لينقضّ توحشها على غزلها الواهن أساساً.

من المفترض أن الدولة حكم عدل بين جميع فئات المجتمع، ولا تتحيز سياساتها الاقتصادية لفئة دون أخرى، بل يجب أن تضع الفقراء نصب أعين سياساتها، ولا سيما في أوقات الأزمات.

أما أن تتهرب الدولة من مسؤولياتها، لتتبرع الصناديق بتحمل تكلفة الحجر للعائدين من الخارج، وتتبرع الجمعيات لذوي الحاجة من عمال اليومية غير المقيدين حكومياً أو الذين لم تكفِهم الإعانات الحكومية الهزلية، ويتبرع المواطنون بأدوات الوقاية للفرق الطبية في المستشفيات الحكومية، فهذا يكشف عمّا بقي متوارياً من الوجه النيوليبرالي المتوحش للسلطة المصرية.

في مقدور الدولة المصرية أن تتحمل عمال اليومية وأصحاب المعاشات المتدنية، وأن تساندهم بمبلغ يكفيهم لمدة شهر أو شهرين، وفي مقدورها أن تزيد رواتب وبدلات العدوى للأطباء والأطقم الطبية بصورة تحفظ كرامتهم وتمنع هروبهم إلى الدول التي بدأت في إغرائهم، وقد تحقق لها ما يكفي ذلك من وفورات أسعار النفط في الموازنة الحالية، وفي مقدورها كذلك أن تتجمل، ولو مؤقتاً وتكتيكياً، في ظل الأزمة الراهنة، ونعاهدها على ألا نعتاد ذلك.
المساهمون