الدولة السودانية على شفا حقبة الميليشيات

19 اغسطس 2014

عناصر ميليشيا معارضة للبشير في دارفور غرب السودان (أغسطس/2004/أ.ف.ب)

+ الخط -


عندما تفشل الحكومات الانقلابية الاستبدادية في إنجاز مشاريعها التي وثبت بذريعتها إلى السلطة، تتحول كل جهودها، بصورة تلقائية، إلى مجرد حِيَلٍ للاستمرار في الحكم. في العامين الأخيرين، ازداد التململ ضد النظام الحاكم في السودان، حتى وسط الإسلاميين أنفسهم؛ مدنيين وعسكريين. أمسك التوجس بتلابيب النواة الصلبة للسلطة، فركنت إلى الاعتماد على جهاز الأمن، وعلى ما يمكن أن يجيّشه من ميليشيات قبلية مستأجرة، تحارب الحركات المسلحة، بدلاً عن الجيش. وقد تضمنت هذه النقلة إرسال رسالةٍ إلى قادة الجيش، أنفسهم، وإلى المتململين من الإسلاميين، مفادها أن الاستيلاء على السلطة دونه حرب شوارع بالغة الدموية.

أوصلت لعبة التوازنات وضرب القوى المختلفة ببعضها الحكومة السودانية إلى مرحلة الاعتماد الكلي على الميليشيات القبلية، التي لمع نجمها، في العام الحالي، لمعانًا كبيرًا، فسيطرت ما سُميت "قوات الدعم السريع" على العناوين الرئيسية للصحف والفضائيات السودانية. وحين انتقد قطب المعارضة، الصادق المهدي، فوضوية هذه الميليشيات المستأجرة وتجاوزاتها، أودع السجن شهراً بلا محاكمة. ولا يزال إبراهيم الشيخ، رئيس حزب المؤتمر السوداني المعارض، معتقلاً بسبب نقده لها.

شهد عام 2003 نموًا كبيرًا في قوة الحركات المسلحة في دارفور، فاجتاحت مدينة الفاشر واستولت على مطارها ساعات، تم خلالها إحراق طائرات عسكرية. حينها، لجأت الحكومة إلى تجييش القبائل العربية، لمواجهة القوة المتصاعدة للحركات الدارفورية المسلحة. استغلت الحكومة الصراعات التاريخية القديمة بشأن الأرض بين القبائل ذات الأصول العربية، المتجولة طلبًا للرعي، والمزارعين المستقرين من سكان دارفور، فسلحت ذوي الأصول العربية، فعمدوا إلى إحراق قرى الدارفوريين، وإتلاف محاصيلهم الزراعية، ونهب ثروتهم الحيوانية، وقتل ثلاثمائة ألف منهم، وتهجير أكثر من مليون من قراهم، ما جعل الرئيس عمر البشير، متهمًا بارتكاب جرائم حرب، ومطلوبًا لدى محكمة الجنايات الدولية.

نتيجة لتشديد الضغط على الحركات المسلحة في إقليم دارفور، بواسطة الميليشيات، وبسبب تراجع دعمها من الخارج، انتقل قطاع كبير من مسلحي دارفور إلى جنوب كردفان، متحالفين مع الحركة الشعبية قطاع الشمال التي تحارب في جبال النوبة. بذلك، انتقلت الحرب قريباً من المركز، وجرى الهجوم على مدينتي أم روابة وأبوكرشولا في شمال كردفان في أبريل/نيسان 2013. دفعت تلك الأحداث الحكومة لكي تتحول، من الاعتماد على الجيش، إلى المليشيات المستأجرة. خصوصاً وأن الجبهة الداخلية للإسلاميين تشققت، كما تبخر الدافع الديني للقتال وسطهم. لم يبق لنواة النظام الصلبة سوى أن تحمي حكمها بطرق جديدة. فالجيش المؤدلج لم يعد محل ثقتها، بعد أن فارقت هي الإيديولوجية التي سبق أن غرستها فيه.

الجديد في المشهد ظهور تفاهماتٍ بين قوى ظلت متحاربة، كما جرى أخيراً بين موسى هلال، زعيم قبيلة المحاميد، حليف الحكومة السابق، وذراعها العسكري في دارفور، الذي دارت حوله الشبهات في حملات الجنجويد، للتطهير العرقي في دارفور عام 2003، والحركة الشعبية قطاع الشمال. أيضًا، على الرغم من تنصل الصادق المهدي، العام الفائت، من إعلان الفجر الجديد الذي وقعته قوى المعارضة المدنية والمسلحة في كمبالا، طار المهدي، أخيراً، إلى فرنسا ليوقع مع الجبهة الثورية ما سمي "إعلان باريس". وهكذا، أصبحت الجسور تمتد في وجهات غير متوقعة، ناسفةً وهم الخطوط المتوازية لا تلتقي.


في الوقت الذي ابتعد فيه الشيخ موسى هلال عن الحكومة، واعتصم بقواته في شمال دارفور، علا نجم ميليشيا أخرى، يقودها ضابط أمن، يدعى محمد حامد دقلو، اشتهر بلقب "حميدتي". أسمت الحكومة هذه المليشيا "قوات الدعم السريع". وتولت هذه القوات مهمة محاربة الحركة الشعبية قطاع الشمال، والجبهة الثورية في معاقلها الحصينة في جبال النوبة. لم تناصب الحكومة الشيخ موسى هلال العداء، على الرغم من تمرده الظاهر عليها، وهو العضو البرلماني، والمستشار في ديوان الحكم الاتحادي، وإنما انصرفت إلى استخدام حميدتي وترفيعه، وهو من عشيرة هلال. أما الجيش فقد أصبح مجرد ظاهرة إعلامية، انحصر وجودها في تصريحات متتالية يدلي بها المتحدث الرسمي باسمه، وفي ما يقوم به سلاح الطيران من قصف عشوائي، يصيب أغلبه المدنيين.

لوردات الحرب الذين أصبحوا يمثلون الدرع الواقي المتبقي للحفاظ على النظام، زعماء قبليون، نمت طموحاتهم بسبب تقريب الحكومة لهم، فتطلعوا إلى كراسي رجال الدولة. في هذا الجو من اختلاط الأمور، يصبح من الغفلة استبعاد احتمال أن تتحالف هذه المليشيات، في لحظة ما، مع الحركات المسلحة المعارضة، ولو على سبيل التكتيك المرحلي، للقضاء على هيمنة المركز. ولقد بدا جليًا ميل الحركات المسلحة المعارضة للتحالف مع المليشيات الدارفورية التي صنعتها الحكومة، كما رأينا في مذكرة التفاهم مع موسى هلال. ولسوف تأتي لحظةٌ، يعي فيها الدارفوريون من حملة السلاح، الواقفون منهم مع السلطة المركزية، والواقفون ضدها، أن السلطة ظلت تستخدمهم ضد بعضهم، وأن إقليمهم هو ساحة الحرب، وأن أهلهم وقودها. فإن هم اتحدوا سيسطرون على دارفور، ولربما أوقفوا الحرب، بل ولربما أصبح في وسعهم السيطرة على مركز السلطة، الذي يعتمد الآن في حماية نفسه على بعضهم. سوف تأتي اللحظة التي يتساءلون فيها: لماذا يرضون بأن يكونوا أدوات تدمير لبعضهم، من أجل سلطة مركزية، لا يهمها سوى إبقاء نفسها آمنة في وسط السودان، الذي لم يتأثر قط بحروب الأطراف وويلاتها؟ 

لن تمنع حدوث هذا السيناريو سوى قوة عسكرية مكافئة. ولكن الواقع، القائم الآن، يقول إن هذه القوة المكافئة لم يعد لها وجود في المركز. هذه الميليشيات، ومن يتحالف معها، ستصبح القوى المرشحة لملء فراغ القوة المتنامي في المركز. ومع الغضب الشعبي العارم من سياسات النظام وفشلها، أصبح هذا الفراغ يلهج بالدعوة لمن يسيطر عليه. فسقوط الدولة السودانية في قبضة لوردات الحرب، سيناريو محتمل الحدوث، وستكون ثروات البلاد الكعكة لبلقنة السودان في المرحلة التي تلي. ولا شيء ينفي إمكانية تحقق هذا السيناريو، بعد أن أخذت الخطوط المتوازية بين القوى المسلحة في الامِّحاء. فعنجهية النظام ونزعته الاستغلالية وأساليبه الماكرة أخذت تقرب بين خصومه ومسانديه. أما ما يلي ذلك، فربما يصبح ظلمات بعضها فوق بعض، خصوصاً في هذه الوقت الذي أخذت فيها الجيوش النظامية تنهار، في لمح البصر، أمام الميليشيات، كما حدث للجيش الحكومي ولقوات البشمركة في العراق. وأخشى أن تكون حقبة الدول القطرية الهشة، في بعض أجزاء المنطقة العربية، قد أخذت تخلي الساحة لحقبة الميليشيات ولوردات الحروب.