بعد الأهوال التي تعرض لها العالم في الحرب العالمية الثانية، سعى مؤسسو الأمم المتحدة لإقامة جامعة بين الدول، تعمل على عدم تكرار هذه الأهوال وتجنبها في المستقبل. واعتبر المؤسسون أن ميثاق الأمم المتحدة ملزم للأطراف الأعضاء في الأمم المتحدة، حيث اعتبر الميثاق أعلى مراتب المعاهدات الدولية وأكثر قواعد القانون الدولي سموًا ومكانة. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تنص المادة 103 من الميثاق نفسه على أنه "إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقًا لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق". ومعنى ذلك، أنه لا يجوز لأي دولة أن تبرم أي اتفاق دولي تتعارض أحكامه مع القواعد والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة. بعبارة أخرى يمكن القول: إن أي سلوك أو فعل دولي يتناقض صراحة أو يشكل خرقًا لميثاق الأمم المتحدة يصبح بالضرورة فعلًا أو سلوكًا منافيًا للقانون الدولي والشرعية الدولية وخروجًا عليهما. كما اعتبرت شرعة حقوق الإنسان أعلى مرتبة من القوانين المحلية وعلى جميع الدول الأعضاء الالتزام بأحكامها. بناء على هذه الرؤية نص ميثاق الأمم المتحدة في ديباجته على "إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية".
مع الأمم المتحدة ولد طموح مشروع لأن تحكم العلاقات بين الدول قواعد ملزمة لكبيرها وصغيرها، وبُني هذا الطموح على عمومية أحكام ميثاق الأمم المتحدة، رغم الملاحظات والانتقادات التي وجهت إلى تركيبة الأمم المتحدة بإعطاء الدول الكبرى حق النقض (الفيتو)، ما اعتبر إخلالًا بقواعد المساواة بين الدول. إلا أن هذا الوضع اعتبر مؤقتًا، ولا بد من تجاوزه خلال السنوات التالية من تطور المؤسسة الدولية، والدعوات لإصلاح الأمم المتحدة لم تنقطع منذ تأسيسها إلى اليوم لجعلها مؤسسة أكثر تعبيرًا عن شعوب العالم التي تنطق الأمم المتحدة باسمها.
كان قبول إسرائيل عضوًا في الأمم المتحدة مشروطًا في تنفيذ التزاماتها الواردة في الميثاق. وكانت الأمم المتحدة قد اتخذت قبل ذلك القرار الذي يوافق على عضوية إسرائيل، القرار رقم 194 لعام 1948، والذي تضمن حق العودة للاجئين الفلسطينيين والحق بالتعويض. ونصت الفقرة 11 منه على "تقرر أن اللاجئين الذين يرغبون في العودة إلى منازلهم وفي أن يعيشوا بسلام مع جيرانهم يجب أن يسمح لهم بذلك في أقرب فرصة ممكنة، ويجب أن يُدفع تعويض لأولئك الذين لا يختارون العودة، كما يجب أن يعوض عن الخسائر والأضرار والممتلكات وفقًا لمبادئ القانون الدولي والعدالة من قبل السلطات أو الحكومات المعنية".
ربطت الأمم المتحدة قبول عضوية إسرائيل بعودة اللاجئين، وقد وافق دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، على عودة مئة ألف لاجئ كمناورة، ولم ينفذ عودة أي لاجئ منهم، كان الهدف من هذه الموافقة الحصول على عضوية الأمم المتحدة، وعدم الالتزام بالتنفيذ. بل على العكس من ذلك، أصدرت إسرائيل بين 1949-1950 ثلاثة قوانين هي: قانون الاستيلاء على الأرض في ساعة الطوارئ، وقانون الطوارئ (مناطق الأمن)، وقانون أملاك الغائبين، بموجب هذه القوانين عُرِّف الغائب بأنه كل عربي كان في 29 /11 /1947 ـ وهو تاريخ صدور قرار التقسيم رقم 181 ـ واحد من الفئات الأربعة:
1 ـ مواطنًا في أي دولة عربية أو من رعايا تلك الدولة.
2 ـ كان يقيم في أي دولة عربية في وقت من الأوقات.
3 ـ كان في أي جزء من فلسطين خارج المنطقة التي تحتلها إسرائيل.
4 ـ كان في أي مكان غير مسكنه المعتاد، حتى لو كان مثل هذا المكان أو سكنه المعتاد يقعان داخل المنطقة التي تحتلها إسرائيل.
وقد أُعلنت كل منطقة تم احتلالها أو إفراغها من أصحابها منطقة متروكة ومبيعة من "الحارس القضائي الإسرائيلي" إلى "سلطة التنمية الإسرائيلية".
بموجب التشريع الإسرائيلي المشار إليه أجازت إسرائيل لنفسها الاستيلاء على أملاك اللاجئين العرب المنقولة وغير المنقولة، كما استباحت مصادرة واستملاك أراضٍ عربية أخرى، سواءً كان أصحابها لاجئين أو غير لاجئين. والأرقام التالية تظهر على سبيل المثال فداحة الظلم الذي ألحقته إسرائيل بحقوق الفلسطينيين، جماعة وأفرادا. فمن أصل 370 مستعمرة إسرائيلية جديدة أقامها الإسرائيليون في فلسطين بين عام 1948 و1953 أُقيمت 350 على أملاك "الغائبين". وفي عام 1954 كان أكثر من ثلث سكان إسرائيل يعيشون على أراضي الغائبين العرب وفي أملاكهم. واستقر ثلث الصهاينة المهاجرين الجدد الذي بلغ عددهم حتى السنة المذكورة 250 ألفًا في مدن أُخرج منها العرب كحيفا ويافا واللد... ويدخل في ذلك 388 بلدة وقرية هُجِّر منها العرب، وأقسام كبيرة من 94 بلدة ومدينة تتضمن تقريبًا ربع مجموع الأبنية في إسرائيل، وأكثر من 10 آلاف مخزن ومتجر ومحل عمل.
حصلت إسرائيل على عضوية الأمم المتحدة دون تنفيذ التزاماتها التي اشترطتها المؤسسة الدولية، وبقيت طوال الوقت حتى يومنا هذا تضرب عرض الحائط بالقانون الدولي وبقرارات الأمم المتحدة المتراكمة في الأرشيف الدولي. وقد غطت قرارات الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية أربعة مواضيع، كان الخرق الإسرائيلي للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة صارخًا وهذه الموضوعات هي: اللاجئون، الاستيطان، القدس، تقرير المصير.
نتيجة حرب 1948 في فلسطين تشرد 750 ألف فلسطيني، ومُنع هؤلاء اللاجئون من العودة إلى بيوتهم وأرضهم بعد توقف الأعمال الحربية، بالتعارض مع الفقرة الثانية من المادة 13 في شرعة حقوق الإنسان التي تنص على "لكلِّ فرد حقٌّ في مغادرة أيِّ بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده". كان ذلك بسبب السياسات الصهيونية التي تقوم على طرد السكان الأصليين، بذلك ظهرت مشكلة اللاجئين كنتيجة لحرب 1948 ولطبيعة إسرائيل الاستيطانية الاقتلاعية ذاتها. وقد قام الكونت برنادوت، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة بشأن قضية فلسطين، بمحاولة لحل مشكلة اللاجئين هذه، لكن السلطات الإسرائيلية حالت دون ذلك. وبناء عليه تقدم برنادوت بتقريره إلى الدورة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة والمنعقدة بتاريخ 11 /12 /1948.
وقد تضمن التقرير مقترحات محددة لعودة اللاجئين إلى أراضيهم وممتلكاتهم. وصدر بناء على هذا التقرير القرار رقم 194 والمتضمن حق العودة للاجئين الفلسطينيين. لم تكتف الجمعية العامة بذلك، إنما قامت بتدعيم هذا القرار عن طريق تشكيل "لجنة التوفيق الخاصة بفلسطين (ما زالت نظريًا قائمة حتى اليوم) التي عهد إليها بمهمة تسهيل عودة اللاجئين وإعادة توطينهم في بيوتهم وأراضيهم وتأهيلهم وتعويض من لا يرغب في العودة" بذلك اعترف المجتمع الدولي بعدم جواز إجلاء الفلسطينيين عن وطنهم والاستيلاء على أملاكهم، وأقرّ بحقهم في العودة إليه، باعتباره أمرًا مفروغًا منه ولا جدال فيه.
وعندما تقدمت إسرائيل بطلب عضوية إلى الأمم المتحدة، اشترطت الأمم المتحدة في المداولات لقبول عضوية إسرائيل، الالتزام بالميثاق والالتزام بالقرارات الدولية، وخصوصًا القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية القرارين 181 و194. وقد وافقت إسرائيل على هذه الاشتراطات. وجرت في حينه مباحثات لوزان، التي دارت بشكل غير مباشر بين إسرائيل والدول العربية، بإشراف الأمم المتحدة، حيث ناقشت هذه المباحثات أوضاع اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى وطنهم. وصدر عن المباحثات وثيقة عرفت باسم "بروتوكول لوزان" في 12/5/1948 تضمنت اعتراف إسرائيل بحق العودة للفلسطينيين، وتعهدها بتطبيق قرار التقسيم. ولكن التعهد الإسرائيلي ظل حبرًا على ورق، ولم يجد طريقه إلى التنفيذ.
بعد حرب حزيران 1967 صدرت قرارات جديدة عن هيئة الأمم المتحدة بخصوص اللاجئين، تضمنت التأكيد على حق فلسطينيي 48 بالعودة، بالإضافة إلى إقرارها بحق العودة لنازحي 1967. مما يفيد بأن الشرعية الدولية وبالرغم من الظروف المعقدة والمستجدة، لم تتجاوز حق فلسطينيي 1948 وتهجير 1967 في قرارها رقم 2452 (د ـ 33) تاريخ 19 /12 /1968، إذ جاء فيه: إن الجمعية العام للأمم المتحدة "تلاحظ مع الأسف الشديد أنه لم تتم إعادة اللاجئين إلى وطنهم أو تعويضهم، كما هو منصوص عليه في الفقرة 11 في قرار الجمعية العامة رقم 194. وتلتمس من اللجنة ـ لجنة التوفيق بشأن فلسطين ـ مواصلة جهدها في سبيل تنفيذها". أما بشأن تهجير 1967، فقد أشار القرار نفسه إلى قرار مجلس الأمن رقم 237 تاريخ 14/6/1967 الذي أهاب بإسرائيل حينها "أن تسهل عودة السكان الذين فروا من المناطق منذ نشوء الأعمال العدوانية وطالبها باتخاذ التدابير الفعالة والفورية لتحقيق العودة".
مند طرح الكونت برنادوت اقتراحه المتضمن حق العودة للاجئين، رفضته إسرائيل، لكن برنادوت أصر على اقتراحه، وضمّنه في تقريره للجمعية العامة وقال فيه "إن أية تسوية لا يمكن أن تكون عادلة وكاملة ما لم يتم الاعتراف بحق اللاجئ العربي في أن يعود إلى المنزل الذي طرد منه نتيجة لما رافق النزاع المسلح بين العرب واليهود وفي فلسطين من أخطار.. وانه لخرق فاضح لأبسط مبادئ العدالة أن ينكر على الضحايا البريئة حق العودة إلى منازلها في حين يتدفق المهاجرون اليهود إلى فلسطين" ومن المعروف أن برنادوت دفع ثمنًا غاليًا لموقفه هذه حين اغتالته العصابات الصهيونية يوم 18/9/1948 بعد يومين من إرساله لتقريره.
ظل الموقف الإسرائيلي من قضية "حق العودة" ثابتاً: اتفاق في الرأي داخل المؤسسة السياسية في إسرائيل على رفض "حق" اللاجئين في العودة إلى الأراضي الإسرائيلية، سواء الحق المبدئي أو الحق العملي. والتحفظ تجاه أي التزام بدفع التعويضات للاجئين. ويقوم هذا التحفظ على أساس أن ما جرى هو تبادل للسكان، وأن اليهود القادمين من البلدان العربية قد تركوا ممتلكاتهم في تلك البلدان. كل السياسات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية، تهدف إلى التنصل من المسؤولية عن الجريمة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في عام 1948. والكلام عن تبادل السكان والتعويضات، هو كلام نافل بالمعنى القانوني، وعلى فرض صحته، فلم يكن الفلسطينيون، لا أفرادًا ولا جماعة هم من استولى على أملاك اليهود في البلدان العربية، وهذا ما يجعل إسرائيل تعاقب الفلسطينيين على فعل ارتكبه غيرها.
عندما أقرت الأمم المتحدة القرار 194 في عام 1948 القاضي بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، لم تكن تحابي الفلسطينيين بهذا القرار. لقد كانت مشكلة اللاجئين واحدة من مخلفات وأهوال الحرب العالمية الثانية، والتي تمت معالجتها بإعطائهم الحق بعودتهم إلى بلدانهم، وهذا هو عنوان العدالة وما زال، وتم إقرار هذا الحق في شرعة حقوق الإنسان في الفقرة الثانية من المادة 13 التي تنص على: "يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه" أما المادة 14 فتقول: "لكل فرد الحق في أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الالتجاء إليها هربًا من الاضطهاد" لقد تم طرد الفلسطينيين من أرضهم وتم رفض إعادتهم إلى ديارهم، رغم ربط اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل بعودة اللاجئين في ذلك الوقت. ومن السخرية أن تدعي إسرائيل حق اليهود في العودة إلى فلسطين بعد ألفي عام، وتمنع أصحاب الوطن الذين غادروا بالأمس من العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم. وهذه عجرفة الجلاد الذي يبني مجده على حساب الضحية وحقوقها وممتلكاتها.
مطالبة الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، هي مطالبة بحق من حقوق الإنسان الذي كفلته شرعة الأمم المتحدة، فهم لجئوا إلى الدول المحيطة وإلى ما تبقى من الأراضي الفلسطينية بفعل الاضطهاد الإسرائيلي. تنظر إسرائيل إلى الفلسطينيين بوصفهم خطرًا وجوديًا يهدّدها. وهذه النظرة، تعود إلى معرفتهم بهول الجريمة التي ارتكبتها بحقهم، والتي بنت نفسها من أملاكهم وآلامهم، وهي تستمر في الاستيلاء على الأملاك الفلسطينية. إن العدالة بالمعنى القانوني للكلمة تمنح الفلسطينيين أفرادًا وجماعة حقهم في بلدهم، سواء بالعودة والتعويض عما تعرضوا لهم من ظلم وخسارة، أو بحقهم في تقرير مصيرهم على أرض وطنهم، لا يمكن وضع الحقوق الفردية بمواجهة الحقوق الجماعية، كما تحاول إسرائيل أن تفعل، في فرض التنازل عن حق العودة على الفلسطينيين. إن الحقوق الفردية حقوق مطلقة، لا تقيدها الحقوق العامة، فعندما يكون من حق الإنسان مغادرة وطنه والعودة إليه، فإن منعه من العودة هو جريمة اعتداء على حق من حقوق الإنسان، وهذا حق ملازم للبشر، لا يتأثر بمكانتهم الاجتماعية، أو ملكياتهم العقارية، هو حق مطلق لكل مواطن عاش على هذه الأرض، بصرف النظر عن مكانته الاجتماعية، أو وضعه الاقتصادي، أو لون بشرته، أو دينه... وهذا الحق لا يتعارض ولا يرتبط، بالحل الجماعي، سواء كان تقرير المصير الفلسطيني، يقوم على دولة واحدة لشعبين، أو دولة فلسطينية مستقلة، أو حكم ذاتي. فالحق الشخصي منفصل على حق الشعوب في تقرير مصيرها، فهو ليس التزامًا مدينًا يسقط بالتقادم، وكونه ملازما للشخص نفسه، لا يسري عليه مرور الزمن القانوني، ولا يتأثر بالتنازل السياسي.
لا يمكن حل قضايا الحقوق الملازمة للإنسان، سوى بالإقرار بهذا الحق، لأن "تناسي حقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة". حسب ديباجة شرعة حقوق الإنسان. لذلك لا يطلب اللاجئون غير حقوقهم الطبيعية. وليس على الضحية طمأنة الجلاد عند كل زاوية ومنعطف. بالعكس على الجلاد أن يقر بحقوق الضحية ويعيدها لها ليسير الحل على السكة الصحيحة.