بالرغم من أن نسبة تصل إلى نحو 80 في المائة من شعب مملكة الدنمارك أعضاء في "الكنيسة الشعبية" ويدفعون ضريبتها من رواتبهم الشهرية، بنسبة تصل إلى 0.87 في المائة من متوسط دخل 30 ألف كرونة شهرياً، أي نحو 4 آلاف سنويا، إلا أن قضية الدين تحتل حيزاً بسيطاً في يوميات الشعب.
وتزامناً مع احتفالات أعياد الميلاد والسنة الجديدة، تفيد دراسة بحثية جديدة لمعهد بيو للأبحاث إلى أن الدنماركيين رغم عضويتهم الكبيرة في الكنسية الشعبية، إلا أنهم أقل شعوب أوروبا إيماناً بالخالق والتزاماً بالصلوات.
وبحسب ما نقلت صحيفة "كريستلي داوبلاديت"، أمس السبت، عن نتيجة هذا البحث فإن "سكان الدنمارك هم الأقل تديناً من بين 34 دولة أوروبية، ويحتل الإستونيون (إحدى دول البلطيق) أيضا مرتبة متأخرة في مجال الاعتقاد بوجود خالق أو ممارسة شعائر دينية".
وجاءت نتيجة بحث "بيو" استناداً إلى سؤال وُجه للأوروبيين عما إذا كانوا "يصلون أو يؤمنون بالله"، ووفقا للصحيفة فقد جاءت إجابات مواطني الدنمارك "لتؤشر إلى أن التقاليد الدينية لا تحتل مكانة متقدمة لديهم، وهو ما يؤكده نائب رئيس قسم الأبحاث الدينية في معهد بيو، غريغ سميث". وبحسب ما يذكر سميث للصحيفة الدنماركية، فإن عوامل كثيرة أخرى يمكن أن تقيس مستوى تدين الناس "لكن في السؤال الجوهري المتعلق بالتقاليد الدينية والإيمان بها تعتبر أهم المؤشرات".
ويمكن للناظر إلى زينة الميلاد في شوارع وبيوت وواجهات متاجر الدنماركيين أن يظن بأن هذا الشعب مؤمن بالديانة المسيحية في بلد بروتستانتي في أغلبه. لكن، تبدو القضية أكثر تقليداً وهوية ثقافية ومجتمعية واستهلاكية بنظر الناس والمختصين في علوم الاجتماع في هذا البلد الاسكندنافي. وما ينطبق على الدنمارك قد ينطبق أيضاً على المشهد الذي تظهر به جارتها ومنافستها الدائمة السويد في مجال التزين لأعياد الميلاد.
فانتشار الأضواء والزينة في كل مكان، وبكثافة تفوق انتشارها في الدنمارك، قد يعطي صورة مخادعة عن ارتباط ذلك بالتدين. فمعظم من استوقفهم "العربي الجديد" في أوبسالا واستوكهولم، وخصوصاً من فئة الشباب، يرون أن الميلاد "يرتبط أساساً بتقاليد وتراث عائلي أكثر منه تديناً". ويرى بعضهم، مثلما هو الواقع لدى جيرانهم الدنماركيين، أنه موسم "التقاء العائلة والأصدقاء وتبادل الهدايا وتناول الطعام والاستمتاع بالإجازة السنوية في عيد الميلاد والسنة الجديدة"، بحسب ما يذكر ديفيد وخطيبته لويزا أثناء بحثهما في أوبسالا عن هدية الميلاد للأهل.
ورغم أن نسبة الانخراط في الكنيسة الشعبية تفوق الـ75 في المائة في الدول الاسكندنافية، بما يستلزمه أيضاً من دفع ضريبة للكنيسة هي أقل من واحد في المائة من الدخل الشهري، إلا أن ذلك يرده خبراء علم الاجتماع إلى "خدمات الزواج والتعميد والدفن"، أكثر من قصة إيمان وممارسة شعائر دينية. بل يعتبر بعض الناس العاديين أن "التعميد ليس دائماً مرتبطاً بالتدين لدى الأهل، بل بتقاليد اجتماعية أكثر".
ويتفق الكاتب الصحافي المتخصص في قضايا التدين في مجتمع الدنمارك من التلفزيون الدنماركي، أندرس لاوسين، أن هيمنة التقاليد "أكبر من قياس التدين المرتبط بمدى ارتياد الكنائس والإيمان بطريقة معينة".
ويبقى أيضاً لممارسة بعض الصور الدينية ليلة وأيام عيد الميلاد يوم غد 24 ديسمبر/ كانون الأول واليومين التاليين في الدنمارك وجهة ثابتة في إقامة القداديس كمناسبة للذهاب إلى كنائس البلد في هذه الأيام التي تجتمع فيها الأسر.
وفي مقابل هذا التراجع المعبر عنه في نتائج بحث "بيو"، تزدهر في الدنمارك، وغيرها من "دول الشمال"، ممارسات ترتبط بأديان وتقاليد وثنية تستند إلى الإيمان بآلهة الشمال القديمة ذات الصلة بميثولوجيا نرسية التي انتشرت بين التوتونيين في اسكندنافيا قبل آلاف السنوات. وتسمي تلك الجماعات نفسها "أساترو"، وهو ما يؤمن به أيضاً كثيرون في دولة أيسلندا.
الإيمان لدى الأساتروين، Asatroen، يقوم على الاعتقاد بآلهة اسكندنافيا القديمة وقوى الطبيعة، ومن بين شواهد العودة لممارسة شعائر الإيمان بالإله "أودين" وابنه "تور" توسع أعداد معتنقي الديانة القديمة إلى آلاف انضم إليهم مؤخراً نحو 4 آلاف جدد، واعترف رسميا بهم في 2003 كإحدى الديانات المنتشرة في الدنمارك.
فحين التقى الفايكنغ بالمسيحية وتبنوها بخلط ديانتهم القديمة بها (والتي كانت تسمى لديهم: العادات القديمة) بالمسيحية التي سموها "العادات الجديدة"، فاختلط الإيمان بمولد السيد المسيح باحتفالات موسم الشتاء لديهم. فمع احتفالات المسيحيين في الكنيسة البروتستانتية في الدنمارك بأعياد الميلاد تنتشر هذه الأيام أيضاً احتفالات موازية لمعتنقي ديانة الشمال القديمة والمؤمنين بآلهة مثل أودين وتور وفرايا. فهؤلاء ينطلقون من أن الانقلاب الفصلي يبدأ مع 22 ديسمبر/ كانون الأول، بأن يصبح النهار أطول وأكثر إشراقاً (نوراً) "فهذه بالنسبة لنا تعني بداية السنة الجديدة، وهي أيام مميزة في إيماننا"، بحسب ما تقول سكرتيرة "الأساتروين" سينا كالر في مدينة آرهوس، معقل معتنقي ديانة الشمال في الدنمارك، الذين أنشأوا نحو 50 معبداً خاصاً بهم في البلد.
ويلاحظ في الدنمارك أن نسبة كبيرة من الشباب يقدمون على اعتناق ديانة الميثولوجيا الشمالية القديمة. ومن بين هؤلاء يذكر الشاب مارتن موللر نيلسن (22 سنة) أنه اعتنق الأساتروين ويمارسها لأسباب "تتعلق بحصولي على روح الانتماء للجماعة، ومكنتني من التعرف إلى نفسي وتطوير قدراتي". ويركز نيلسن، شأنه شأن الشباب الآخرين، على التعرف إلى الميثولوجيا الشمالية القديمة بالقراءة والاطلاع على الآثار والأفلام التي تنتشر عن الفايكنغ "وهذا بالنسبة لنا فيه انتشار أكثر لديانتنا وانضمام الكثيرين للإيمان بميثولوجيا الأجداد".