26 سبتمبر 2023
الدرس الجزائري المغربي في أزمة الخليج
خلّفت الأزمة الخليجية القطرية، بسبب قرار "الرباعية" قطع علاقاتها بدولة قطر، ومحاولة حصارها، دروسا مهمة في ما يخص موضوع العمل العربي المشترك، وجدوى المؤسسات (أو الهياكل) العربية الإقليمية، كجامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي، غير أن الدرس الأبرز، من ناحية الأخلاق السياسية على الأقل، هو الدرس الجزائري المغربي، سواء من خلال تعامل البلدين الرصين مع الأزمة، أو من خلال تسيير الأزمة المعقدة بينهما بسبب مشكلة الصحراء، والتي بقيت، على الرغم من كل المخاطر التي عرفتها عقوداً طويلة، خلافاتٍ لا ترقى إلى حد القطيعة الكاملة، كما في الحالة مع الرباعية مع قطر، بل إن الخلاف الجزائري المغربي ظل عقوداً طويلةً يحتفظ بما يمكن تسميته "الأخلاق السياسية" بين البلدين، وعدم الوصول في الخصومة إلى حد الفجور وقطع الأرحام .
في الدرس الجزائري المغربي، وهما أهم دولتين في المغرب العربي، فقد كانتا إلى جانب الشقيقة تونس، أنموذجا في العقلانية، فقد رفضت الجزائر والرباط، الخصمان الشقيقان أو (اللدودان)، الانجرار وراء الفتنة الخليجية، وفضّلتا البقاء على مسافة واحدة من أطراف النزاع، بعيدا عن صيغة الأوامر التي سيقت بها موريتانيا وحكومة شرق ليبيا المرتبطتان عضويا بالسعودية والإمارات نحو قرار مقاطعة قطر، لتثبت الرباط والجزائر بذلك رغبتهما الصادقة في حل هذه المشكلة بالطرق السياسية، على الرغم من أن غصّةً واضحةً في الحلق المغربي جراء ردود فعل الدول "المحاصِرة" من هذا الموقف المتوازن.
استنادا إلى تقاليدها الدبلوماسية في الحياد، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وكذا
رفضها المتواصل الانجرار إلى مواقف دول الخليج، وخصوصا السعودية والإمارات في "مغامراتيهما" الإقليمية، دعت الجزائر، بكل وضوح، في بيان رسمي إلى "احترام سيادة الدول الوطنية في كل الظروف"، مؤكّدة أن السبيل الوحيد لحل الأزمة هو الحوار. وأدى الحياد المغربي إلى حالة من الذهول في دول الخليج، على الرغم من أن المملكة تقليديا هي أقرب دول المغرب العربي للملكيات الخليجية، غير أن التزامها موقفا رافضا القطيعة مع قطر، على غرار الكويت وسلطنة عمان، خلط الأوراق، خصوصا بالنسبة لوسائل الإعلام السعودية والإماراتية التي لم تجد ما "تنتقم" به، إن صح التعبير، سوى النبش في قضية الصحراء، وتناول القضية لأول مرة على أنها قضية تصفية استعمار، والحديث لأول مرة عن "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، في حين كان الموقف المصري في هذه القضية سابقا عن هذه الأزمة، وقد غيّر من تعامله في هذا الملف في غير صالح الطرح المغربي، مع صعود عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، وتقاربه الكبير مع الجزائر.
ولم يتوقف الدرس الجزائري المغربي عند حدود الحياد السلبي، بل عبّرت الجزائر والرباط عن استعدادهما للوساطة من أجل إيجاد حل للأزمة، بل شهدت العاصمة الجزائرية حراكا دبلوماسيا مكثفا في أعقاب إعلان المقاطعة، حيث استقبلت بالتوازي وزير شؤون الرئاسة لدولة الإمارات، فارس المزروعي، ووزير الدولة للشؤون الخارجية القطري، سلطان بن سعد سلطان المريخي، الذي سارع إلى وصف الجزائر بالدولة الشريفة، وموقفها من الأزمة بأنه "مشرّف"، معتبرا أن الجزائر أول بلد دعا إلى الحوار.. في حين لم تلق السعودية والإمارات أي اهتمامٍ، على ما يبدو، للإشارات التي بعث بها المغرب، للتوسط في الأزمة الحاصلة مع قطر، بعد زيارات وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، إلى الإمارات والسعودية والكويت، وهو ما أحدث حالةً من الاستياء العام شعبيا ورسميا في المغرب من الموقف الخليجي، خصوصا بعد توظيف ملف الصحراء بطريقةٍ توحي بالمساومة، عبر التلويح بتغيير الموقف من القضية 180 درجة، على الرغم من أن المغرب وقف الى جانب السعودية في كل ما طلبته في الماضي، ومنها إرسال قوات عسكرية للقتال في اليمن مع قوات التحالف العربي. ومع ذلك، لم تنجرّ وسائل الإعلام المغربية في الرد على ما حصل، تفاديا لتصعيد الموقف المتأزم أصلا.
وبينما يكافح المخزن في تبرير تأخر المساعدات الخليجية الموعودة، جاءت رسالة التهنئة التي بعث بها العاهل المغربي، محمد السادس، في عز الأزمة إلى أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في ذكرى توليه مقاليد الحكم، لتؤكد هذا الموقف المغربي الصارم، خصوصا عندما أشاد بوضوح بالقيادة الرشيدة لدولة قطر.
ويستدعي هذا الوضع طرح أسئلة محددة عن الأسباب والخلفيات التي جعلت مشكلةً، لم تتجاوز جذورها العام 2014، أن تنفجر بهذه الحدّة والخطورة، بينما مشكلة عميقة ومعقدة، تمتد أكثر من نصف قرن بين الجزائر والمغرب، أي أنها منذ قبل استقلال البلدين، بقيت كامنة ومتحكم فيها، على الرغم مما عرفته من فترات صعبة وخطرة؟ منذ حرب الرمال الشهيرة (1963/1964) بين الجزائر والمغرب، والتي كانت لها ظروفها وملابساتها التاريخية،
تمكنت الجزائر والمغرب، من تجاوز كل المطبات الخطرة، والألغام الكثيرة التي واجهتهما بحكمةٍ وتبصر، لإدراكهما أن أي تصعيد سياسي، أو عسكري، لن يكون، في أي حال، في صالح أيٍّ من الطرفين، وحتى عندما قرّرت الجزائر إغلاق حدودها البرية مع المغرب سنة 1994، رد فعل على قرار الرباط فرض تأشيرة دخولٍ على الجزائريين، إثر اتهامات مغربية للجزائر بالتورّط في تفجير في فندق في مراكش، لم تصل الأمور أبدا، خلالها أو بعدها، إلى فرض حصار جوي أو بحري، على الرغم من الاختلافات الجغرافية الجوهرية بالطبع، وبقيت التعاملات الاقتصادية والبينية، والرحلات بين مطارات البلدين على ما كانت عليه، بينما لم يخطر ببال صاحب القرار في الجزائر أو المغرب قطع العلاقات الدبلوماسية، كما حصل في غضون الأزمة الحالية بين الدول الأربع وقطر.
والمثير في الدرس الجزائري المغربي أن إشكالات ضخمة واجهت البلدين، تخللتها، في أحيان كثيرة، حملات إعلامية مضادة، لكنها بقيت ضمن الحدود المقبولة، بينما اشتغلت الدبلوماسية في البلدين، على استدعاء سفراء البلد الآخر للتشاور أو الاحتجاج، أما الاتصالات ورسائل المجاملة والتهنئة في مختلف المناسبات فلا تكاد تنقطع بين الرئيس بوتفليقة والملك محمد السادس.
وما يثير الاستغراب أكثر أن الخلاف الخليجي القطري لا يبدو أنه كبير، فمرتكزاته سياسية أيدولوجية، وربما كان جانب كبير منه شخصياً، أو لاستقطاب الأضواء وافتكاك الزعامة على أقصى تقدير، لكنه مع ذلك ما إن اندلع حتى كان جارفا كل أواصر الأخوة، إلى درجة أنه تمّت قراءته على أنه محاولة لفرض الانتداب أو الوصاية على دولة قطر، مع كل توابع القرار التي كان آخر تجلياتها عمليات قطع الأرحام، وتحميل الإبل القطرية تبعات ما تقوم به "الجزيرة" مثلا، في حين أن الخلاف الجزائري المغربي أعقد وأخطر بكثير، فهو يمتد منذ زمن الاستعمار، ويخص الوحدة الترابية للبلدين، سواء في موضوع الصحراء الشرقية في الحدود بين الجزائر والمغرب، جرّاء التركة المتفجرة التي تركها الاستعمار، وتخص حدود الدولة الوطنية الحديثة، أو قضية الصحراء التي تشكل مساحتها حوالي نصف مساحة المغرب، ما يعني أن الصراع يكاد يكون وجوديا. ومع ذلك، بقي القادة في البلدين يعملون على تبريد الأزمة، وعدم السير بها في مسارات التصعيد الخاسرة في كل الأحوال.
وكما أدرك الجزائريون والمغاربة أن المثال العراقي الإيراني وحروب الثماني سنوات لم تخلف سوى الدمار للطرفين، فإن على الدول الأربع المحاصرة قطر أن تتمثل قضية اجتياح الكويت وما خلفته من كوارث، ما تزال تداعياتها، حتى وإن كان التصعيد العسكري غير وارد، إلا أن الإقصاء وأسلوب "الفتوّة" في التجاسر على دولةٍ عربيةٍ، مهما كان حجمها، أو "الفجور" في الخصومة التي شهد عليه العالم كله، ستكون له تداعياتٌ وخيمة على السلم والأمن العربيين، بدليل أن القوى الاقليمية في المنطقة أظهرت، بما فيه الكفاية، استعدادها للاستثمار في هذه المشكلة، ما يجعل الجزائر والمغرب تستشعران خطورة الوضع، وربما ستكونان، بعد الكويت مستقبلا، جسرا مهما في رأب هذا الصدع بين الأشقاء.
في الدرس الجزائري المغربي، وهما أهم دولتين في المغرب العربي، فقد كانتا إلى جانب الشقيقة تونس، أنموذجا في العقلانية، فقد رفضت الجزائر والرباط، الخصمان الشقيقان أو (اللدودان)، الانجرار وراء الفتنة الخليجية، وفضّلتا البقاء على مسافة واحدة من أطراف النزاع، بعيدا عن صيغة الأوامر التي سيقت بها موريتانيا وحكومة شرق ليبيا المرتبطتان عضويا بالسعودية والإمارات نحو قرار مقاطعة قطر، لتثبت الرباط والجزائر بذلك رغبتهما الصادقة في حل هذه المشكلة بالطرق السياسية، على الرغم من أن غصّةً واضحةً في الحلق المغربي جراء ردود فعل الدول "المحاصِرة" من هذا الموقف المتوازن.
استنادا إلى تقاليدها الدبلوماسية في الحياد، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وكذا
ولم يتوقف الدرس الجزائري المغربي عند حدود الحياد السلبي، بل عبّرت الجزائر والرباط عن استعدادهما للوساطة من أجل إيجاد حل للأزمة، بل شهدت العاصمة الجزائرية حراكا دبلوماسيا مكثفا في أعقاب إعلان المقاطعة، حيث استقبلت بالتوازي وزير شؤون الرئاسة لدولة الإمارات، فارس المزروعي، ووزير الدولة للشؤون الخارجية القطري، سلطان بن سعد سلطان المريخي، الذي سارع إلى وصف الجزائر بالدولة الشريفة، وموقفها من الأزمة بأنه "مشرّف"، معتبرا أن الجزائر أول بلد دعا إلى الحوار.. في حين لم تلق السعودية والإمارات أي اهتمامٍ، على ما يبدو، للإشارات التي بعث بها المغرب، للتوسط في الأزمة الحاصلة مع قطر، بعد زيارات وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، إلى الإمارات والسعودية والكويت، وهو ما أحدث حالةً من الاستياء العام شعبيا ورسميا في المغرب من الموقف الخليجي، خصوصا بعد توظيف ملف الصحراء بطريقةٍ توحي بالمساومة، عبر التلويح بتغيير الموقف من القضية 180 درجة، على الرغم من أن المغرب وقف الى جانب السعودية في كل ما طلبته في الماضي، ومنها إرسال قوات عسكرية للقتال في اليمن مع قوات التحالف العربي. ومع ذلك، لم تنجرّ وسائل الإعلام المغربية في الرد على ما حصل، تفاديا لتصعيد الموقف المتأزم أصلا.
وبينما يكافح المخزن في تبرير تأخر المساعدات الخليجية الموعودة، جاءت رسالة التهنئة التي بعث بها العاهل المغربي، محمد السادس، في عز الأزمة إلى أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في ذكرى توليه مقاليد الحكم، لتؤكد هذا الموقف المغربي الصارم، خصوصا عندما أشاد بوضوح بالقيادة الرشيدة لدولة قطر.
ويستدعي هذا الوضع طرح أسئلة محددة عن الأسباب والخلفيات التي جعلت مشكلةً، لم تتجاوز جذورها العام 2014، أن تنفجر بهذه الحدّة والخطورة، بينما مشكلة عميقة ومعقدة، تمتد أكثر من نصف قرن بين الجزائر والمغرب، أي أنها منذ قبل استقلال البلدين، بقيت كامنة ومتحكم فيها، على الرغم مما عرفته من فترات صعبة وخطرة؟ منذ حرب الرمال الشهيرة (1963/1964) بين الجزائر والمغرب، والتي كانت لها ظروفها وملابساتها التاريخية،
والمثير في الدرس الجزائري المغربي أن إشكالات ضخمة واجهت البلدين، تخللتها، في أحيان كثيرة، حملات إعلامية مضادة، لكنها بقيت ضمن الحدود المقبولة، بينما اشتغلت الدبلوماسية في البلدين، على استدعاء سفراء البلد الآخر للتشاور أو الاحتجاج، أما الاتصالات ورسائل المجاملة والتهنئة في مختلف المناسبات فلا تكاد تنقطع بين الرئيس بوتفليقة والملك محمد السادس.
وما يثير الاستغراب أكثر أن الخلاف الخليجي القطري لا يبدو أنه كبير، فمرتكزاته سياسية أيدولوجية، وربما كان جانب كبير منه شخصياً، أو لاستقطاب الأضواء وافتكاك الزعامة على أقصى تقدير، لكنه مع ذلك ما إن اندلع حتى كان جارفا كل أواصر الأخوة، إلى درجة أنه تمّت قراءته على أنه محاولة لفرض الانتداب أو الوصاية على دولة قطر، مع كل توابع القرار التي كان آخر تجلياتها عمليات قطع الأرحام، وتحميل الإبل القطرية تبعات ما تقوم به "الجزيرة" مثلا، في حين أن الخلاف الجزائري المغربي أعقد وأخطر بكثير، فهو يمتد منذ زمن الاستعمار، ويخص الوحدة الترابية للبلدين، سواء في موضوع الصحراء الشرقية في الحدود بين الجزائر والمغرب، جرّاء التركة المتفجرة التي تركها الاستعمار، وتخص حدود الدولة الوطنية الحديثة، أو قضية الصحراء التي تشكل مساحتها حوالي نصف مساحة المغرب، ما يعني أن الصراع يكاد يكون وجوديا. ومع ذلك، بقي القادة في البلدين يعملون على تبريد الأزمة، وعدم السير بها في مسارات التصعيد الخاسرة في كل الأحوال.
وكما أدرك الجزائريون والمغاربة أن المثال العراقي الإيراني وحروب الثماني سنوات لم تخلف سوى الدمار للطرفين، فإن على الدول الأربع المحاصرة قطر أن تتمثل قضية اجتياح الكويت وما خلفته من كوارث، ما تزال تداعياتها، حتى وإن كان التصعيد العسكري غير وارد، إلا أن الإقصاء وأسلوب "الفتوّة" في التجاسر على دولةٍ عربيةٍ، مهما كان حجمها، أو "الفجور" في الخصومة التي شهد عليه العالم كله، ستكون له تداعياتٌ وخيمة على السلم والأمن العربيين، بدليل أن القوى الاقليمية في المنطقة أظهرت، بما فيه الكفاية، استعدادها للاستثمار في هذه المشكلة، ما يجعل الجزائر والمغرب تستشعران خطورة الوضع، وربما ستكونان، بعد الكويت مستقبلا، جسرا مهما في رأب هذا الصدع بين الأشقاء.