منذ فوز حزب "نداء تونس" بالرئاسة، لا يغيب السؤال عن مدى التغير الذي ستعرفه دبلوماسية الباجي قائد السبسي حيال الملفات الإقليمية الرئيسية، من ليبيا وسورية فالخليج وصولاً إلى مصر. اليوم، بدأت تتضح معالم السياسة الخارجية "الجديدة"، وتخضع للاختبار العملي في ظل تعقيدات إقليمية ودولية متزايدة، وبعدما أصبحت تونس قبلة للكثيرين ممن لهم تأثير على صناعة الأحداث وتوجيهها عربياً وفي العالم. ثلاثة ملفات حارقة طُرحت منذ البداية على طاولة كل من رئيس الجمهورية، المسؤول مباشرة عن الدبلوماسية التونسية بحسب الدستور، وكذلك وزير الخارجية الطيب بكوش الذي يتولى عملياً إدارة السياسة الخارجية.
ليبيا والبحث عن "الحياد الإيجابي"
إزاء الانقسام العمودي في نظرة التونسيين إلى طبيعة الأزمة الليبية، بين "فجر ليبيا" وحكومة طبرق وعملية الكرامة من خلفها، كانت أطراف تونسية عديدة، خصوصاً تلك المناهضة لحركة النهضة، تدفع في اتجاه الانحياز للقوى الملتفة حول اللواء خليفة حفتر، وعدم التعامل مع خصومه، أي فجر ليبيا. استندت حكومة مهدي جمعة في تعاملها مع حكومة عبد الله الثني، المنبثقة عن مجلس نواب طبرق المطعون في شرعيتها من قبل القضاء الليبي، إلى قرار الأمم المتحدة القاضي بالاعتراف بحكومة الثني حصراً، على قاعدة أن ذلك ما أفرزه صندوق الاقتراع، من دون أن يعني ذلك انحياز تونس لطرف على حساب الآخر. ورغم أن وزير الخارجية السابق منجي الحامدي لم يلتق بأي مسؤول من حكومة عمر الحاسي (التي تمثل المؤتمر الوطني المنتهية ولايته في طرابلس)، إلا أنه استعان في أكثر من مناسبة بمسؤولين سابقين قريبين من الأوساط المتحكمة في طرابلس وذلك لمعالجة مسائل تتعلق بتونسيين تعرضوا للاختطاف.
إقرأ أيضاً: الدبلوماسية التونسية والبحث عن التوازن الصعب
منذ اللحظة الأولى التي تولى فيها رئاسة الجمهورية، أدرك السبسي أن الحالة الليبية شديدة التعقيد، وأن إظهار العداوة للماسكين بالعاصمة طرابلس وجزء واسع من بنغازي وغيرهما من المدن الليبية لن يكون توجهاً سليماً، ولن يخدم المصالح التونسية. وعلى هذا الأساس، دعا السبسي إلى "الوقوف على المسافة نفسها من الأطراف المتنازعة". واعتمد وزير الخارجية البكوش مصطلح "الحياد الإيجابي" للتعبير عن مسك بلاده العصا من وسطها إزاء الانقسام الليبي، في سياق تبريره فتح قنصليتين تونسيتين، واحدة في طرابلس والثانية في بنغازي، وهما قنصليتان موجودتان منذ زمن طويل. هذه الصيغة أثارت غضب حكومة الثني في طبرق، التي ردت بشدة من خلال تأكيد رئيس هيئة الإعلام والثقافة عمر القويري بالقول إنه "لا يمكن المساواة بين طرف شرعي وآخر غير شرعي"، وأجرى مقارنة غريبة بين ما وصفه بـ"حكومة بالقصبة" وأخرى بـ"حكومة جبال الشعانبي"، في إشارة إلى الجماعات المسلحة التي تحارب في تلك المنطقة في محافظة القصرين. كلام استفزازي دفع بجهات رسمية لأن تطلب من القويري، الذي كان في زيارة خاصة لتونس، "الالتزام بواجب التحفظ"، وهو ما دفع مصادر رسمية في حكومة الثني إلى العمل على احتواء الأزمة من خلال التأكيد بأن ما صرح به القويري "لا يمثل سوى وجهة نظره". في المقابل، نفت وزارة الخارجية التونسية ما نُسب إلى الطيب البكوش حول استخدامه عبارة "الاعتراف بحكومتين في ليبيا". لكن بالرغم من ذلك، فقد أدت تصريحات وزير الخارجية إلى بلبلة داخل تونس وليبيا، وأثارت ردود فعل واسعة في وسائل الإعلام المحلية ضد الوزير، وهو ما دفع برئيس الجمهورية إلى عقد جلسة خاصة في القصر الجمهوري، دعا إليها الطاقم المكلف بالدبلوماسية، وأكد خلالها على "ضرورة ملازمة الحذر والتمسك بثوابت الدبلوماسية التونسية".
سورية: الحذر سيد الموقف
عندما قرر الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي قطع العلاقات مع دمشق، تعرض لحملة سياسية وإعلامية شديدة استمرت طيلة فترة ولايته. وقد صدرت تصريحات عن السبسي وقادة حزب "نداء تونس"، ومن بينهم الطيب البكوش، تؤكد على ضرورة "إصلاح الخطأ" والتعجيل بإعادة هذه العلاقات إلى مستواها السابق. لكن ذلك لم يحدث إلى حد الآن، وهو ما جعل حزب "التيار الشعبي"، ذي التوجه الناصري، يتهم القيادة التونسية بـ"التنكر لوعودها" الانتخابية.
لقد أبدت الرئاسة ووزارة الخارجية حذراً ملحوظاً في التعامل مع الملف السوري. وبدل أن تسرع في اتخاذ قرار إعادة العلاقة مع دمشق، فضلت الدبلوماسية التونسية اتخاذ موقف "المترقب" في انتظار ما ستسفر عنه التطورات داخل سورية. وفي هذا السياق، يؤكد مصدر مطلع لـ"العربي الجديد" أن القيادة السياسية "مدعوة للتفكير في الربح والخسارة قبل أن تقدم على أي خطوة أو إجراء". هذا يعني أن الدبلوماسية التونسية تجاوزت أجواء الصراع الانتخابي التي هيمنت في المرحلة السابقة، وعادت لتؤسس مواقفها على معطيات الواقع الإقليمي والدولي، وعلى حسابات دقيقة منها همّ تحسين أدائها الدبلوماسي مع أوسع الأطراف التي ليس من مصلحتها إخراج النظام السوري، ولو جزئياً، من عزلته.
مع الخليج كل الخليج
أخيراً يأتي الملف الخليجي، حيث كثرت الشائعات قبل الانتخابات وبعدها، وروجت أوساط عديدة بأن العلاقة بدولة الإمارات ستحظى بالأولوية في عهد السبسي. لكن يلاحظ اليوم أن الرئيس، باعتباره مهندس السياسة الخارجية، يبدو حريصاً على أن تكون تونس صديقة الجميع من دون استثناء، وهو، مثلما سارع للقيام بزيارة خاطفة للمشاركة في دفن الملك السعودي الراحل عبد الله، وتوثيق الصلة بالملك الجديد سلمان، فإنه ينوي تلبية الدعوات التي تلقّاها من مختلف دول الخليج، بما في ذلك دولة قطر التي تربطه بقيادتها علاقات شخصية وثيقة.
إقرأ أيضاً: الحكومة التونسية ترتّب أولوياتها: المخاطر الليبية والمطالب الاقتصادية