تشعر الناشطة الحقوقية الفرنسية سيليست دانوس بالقلق من تزايد تعرض النساء للتحرش الجنسي اللفظي والجسدي، ما دفعها وعدد من زميلاتها في جمعية "كلنا إلى الأمام" إلى مساعدة الضحايا عبر العمل مع عدد من النساء اللائي تعرضن للتحرش لتأسيس حركة "أنا أيضاً" لكشف معاناة المرأة الفرنسية من العنف الجنسي، إذ شاركن في إطلاق هاشتاغ "أنا أيضاً" في فرنسا لسرد تفاصيل تعرضهن للتحرش في الأماكن العامة ووسائل النقل العام وأماكن العمل، وذلك للفت أنظار السلطات ومواجهة هذه الظاهرة من خلال الردع القضائي كما تقول.
تفاقم الظاهرة يبدو في تعرض 93 ألف امرأة للتحرش الجنسي خلال عام 2016، وفقاً لما وثّقه موقع المجلس الأعلى للمساواة بين النساء والرجال الحكومي في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وهو الشهر ذاته الذي شاركت فيه الناشطة دانوس في مسيرة كبرى جرت في باريس و10 مدن كبرى من أجل إبراز ما تتعرض له الفرنسيات من تحرش جنسي بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة والمساواة بين الجنسين.
وحلت فرنسا في المرتبة الثالثة لانتهاكات التحرش الجنسي من بين 28 دولة تابعة للاتحاد الأوروبي بنسبة تحرش جنسي 75% من بين عينة شملت 42 ألف مبحوثة وفقا لدراسة قياس العنف الجسدي والبدني ضد نساء الاتحاد الأوروبي التي نفذتها المؤسسة الأوروبية للحقوق الأساسية في 2014، فيما كشف تقرير أعده المجلس الأعلى للمساواة بين الجنسين التابع لرئاسة الوزراء الفرنسية، أن إفادات 600 امرأة؛ شاركن في دراسة عن التحرش، أظهرت أن جميع النسوة المشاركات في الاستطلاع قد تعرضن للتحرش الجنسي، أثناء تنقلهن في وسائل النقل العامة، وأن أكثر من نصفهن كنّ تحت الـ 18 من العمر، في ظل أن النساء يشكلن ثلثي مستخدمي وسائل النقل العامة في فرنسا.
التحرش في أماكن العمل ووسائل النقل العامة
تعد وسائل النقل العامة ومقر العمل من أكثر الأماكن التي تتعرض فيها النساء للتحرش الجنسي بفرنسا بحسب دانوس، إذ تعرض 267 ألف شخص للتحرش الجنسي في وسائل النقل 80 % من بينهم نساء منذ بداية عام 2016 حتى نهاية عام 2017 وفقا لإحصائيات المرصد الوطني للجنح والعقوبات الجزائية الصادرة في نهاية عام 2017.
ويؤثر التعرض للتحرش الجنسي في العمل على ثقة المنتهكات بأنفسهن، وعلى مردوديتهن في العمل وفقا لدراسة "استقصاء التحرش الجنسي في العمل" الصادرة عن المجلس الأعلى للمساواة بين المرأة والرجل الحكومي في عام 2014، والتي كشفت عن تعرض 80% من 615 امرأة (تتراوح أعمارهن بين 18 و64 سنة) إلى المضايقات، والتحرش الجنسي بشكل متواتر في العمل، وطبقا لإحصائيات المعهد الفرنسي للرأي العام في 2014، فإن امرأة من خمس نساء يتعرضن للتحرش الجنسي، وامرأة من سبع نساء تم لمسهن أو محاولة لمسهن في مقار أعمالهن، وهو ما حدث مع العشرينية الفرنسية من أصل مغربي نوال زويشالتي التي تعمل سكرتيرة في إحدى المؤسسات بفرنسا، إذ تعرضت للتحرش الجنسي اللفظي من قبل رئيسها في العمل بادئ الأمر، ثم تطور التحرش إلى لمس جسدها، كما تقول لـ"العربي الجديد"، مضيفة أن رئيسها ظل يتمادى أكثر، دون أن تستطيع صده، عبر رفع دعوة قضائية، لأنها "ستطرد من العمل بتهمة خطأ مهني، وهذا الأمر سيلاحقها طوال مسيرتها المهنية كما تعتقد، ولن يتم طرد الرئيس".
ويستحوذ التحرش الجنسي على نسب مرتفعة، ومثيرة للقلق في فرنسا، رغم التطور التكنولوجي والعلمي، وقوانين الوقاية والتدخل في المجتمعات الغربية، والتطور الجنائي والتشريعي والسياسي في بلدان الاتحاد الأوربي عامة وفرنسا خاصة، بحسب تأكيد الأخصائية النفسية في مستشفى كاين Caen الواقع شمال فرنسا، عبير إسطنبولي، والتي قالت لـ"العربي الجديد": "يرجع الأمر إلى خصوصية المسارات الفردية للمعتدين، وللثوابت التي تنتقل عن طريق التراث المشترك، وهي التعليم والثقافة والإعلام، ومن خلال التساؤل عن هذه الركائز الثلاث نرى تأثير رسائل العنف والاستغلال والتمييز ضد المرأة التي لا تتوقف" كما تقول.
الشرطة تتجاهل الشكاوى
زادت نسبة قضايا التحرش الجنسي المرفوعة إلى سلك الشرطة الفرنسية 30% خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2017 مقارنة مع ما كانت عليه في الشهر نفسه من العام الماضي، حسب البيانات المعلنة من وزارة الداخلية الفرنسية، لكن الثلاثينية سندرين بنوا التي تقدمت بشكوى إلى مركز للشرطة في العاصمة باريس عن تعرضها للتحرش الجنسي من قبل شخص في المترو، اصطدمت برد فعل سلبي من قبل مركز الشرطة بمبرر "أنها لا تمتلك دليلا ماديا، أو ندبة، الأمر الذي جعلهم يرفضون شكواها"، "وقتها أحست بالقهر والظلم، إذ إن قوانين مواجهة التحرش غير مجسدة على أرض الواقع" كما تقول، وهو ما يؤكده بيان جمعية "إنسوميا النسائية" (منظمة مجتمع مدني) الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 الذي أوضح أن 82% من الضحايا اللائي ذهبن إلى مراكز الشرطة لديهن تجربة سيئة في تقديم شكواهن و70% لم يشعرن بأن الشرطة والقضاء يعترفان بهن كضحايا، رغم وجود أطر قانونية صلبة ومتنوعة تحمي النساء من العنف الجنسي.
ويفسر المحامي سيباستيان ميريو، المختص في قضايا العنف ضد المرأة، تقليل الشرطة الفرنسية من حدة الوقائع عند تقديم الشكوى من قبل الضحية، ووصول الأمر إلى رفض الشكوى أحيانا لعدم توفر الآثار والبراهين، وهو ما يترتب عنه عدم قبول الدعوة من قبل المدعي العام، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن الأمر يرجع في الواقع إلى الضحية لإثبات الوقائع، منها الإثبات عن الفعل نفسه مثل حالة الاغتصاب، وإثبات عدم الموافقة".
هذا الأمر جعل امرأة واحدة من كل اثنتين تغير من طريقة لباسها لتجنب ملاحظات جنسية، ودفع 48% من مجموع 1259 امرأة إلى التخلي عن ترددهن على أماكن معينة، بسبب التعليقات والمضايقة التي يتعين عليهن مواجهتها، وفقا لدراسة "تصورات المساواة بين النساء والرجال في فرنسا... نظرة متقاطعة" الصادرة عن معهد الدراسات التسويقية واستطلاعات الرأي في 2016.
محاولات للحد من ظاهرة التحرش
يعرف الاعتداء الجنسي في قانون العقوبات الفرنسي رقم 769 لسنة 2010 في المادة 222-22-2 منه بأنه "فعل من طبيعة جنسية، دون الفعل الحقيقي عن طريق العنف أو الإكراه أو التهديد أو المفاجأة" وقد يكون، على سبيل المثال، مداعبات أو لمساً ذا طبيعة جنسية وعقوبته 5 أعوام سجناً و75 ألف يورو غرامة، ويزداد إلى 7 أعوام وحتى 10 أعوام في حالة ارتكاب الاعتداء على أكثر من حالة، ويعرف المتحرش حسب المادة 222-32 من نفس القانون بأنها "فرض فعل فاضح على مرأى من شخص غير موافق عليه في مكان يمكن للجمهور الوصول إليه"، وعقوبته السجن لمدة سنة واحدة، و15 ألف يورو غرامة، ويجب على الضحية تقديم شكوى في غضون 6 أعوام بعد الحادثة.
ويسعى موقع "أوقف التحرش الجنسي" الإلكتروني الذي تشرف عليه وزارة العدل الفرنسية إلى الحد من الظاهرة من خلال التوعية، وتوفير معلومات توجيهية حول كيفية التصرف في حال وقوع الاعتداء والتحرش الجنسي، إلى جانب تعريف الاعتداء والتحرش الجنسي، والعقوبات الجزائية للمتحرش.
وقامت مارلين شيابا كاتبة الدولة المكلفة بالمساواة بين الجنسين بحملة توعوية ضد التحرش على الصفحة الرسمية الحكومية للمساواة بين المرأة والرجل أطلق عليها "أوقفوهم". وتهدف الحملة إلى تعريف كل أنواع الممارسات التي يمكن أن تعتبر تحرشا جنسيا، وعقوبة كل منها قانونيا، مع الإشارة في النهاية إلى جملة "الآن صرت أعلم"، كما وضع الاتحاد الوطني للتضامن النسائي في عام 2014 الرقم الأخضر 3919 المجاني للإبلاغ عن حالات العنف، وارتفع عدد مكالمات الواردة على الرقم الأخضر في شهر أكتوبر/تشرين الثاني 2017 إلى 5717 مكالمة وفق ما صرحت به مديرة الاتحاد فرنسوا زبرييا لوكالة فرنس برس.
قانون جديد ضد العنف الجنسي
أدى التحرك النسائي نهاية عام 2017 والعمل على كشف المتحرشين من خلال الملصقات في "المترو" والأماكن العامة الأخرى، وانتهاء بالتظاهر، إلى تبني الحكومة الفرنسية لمشروع قانون جديد ضد العنف الجنسي، من المتوقع التصويت عليه بداية العام الحالي، بحسب دانوس.
ويهدف مشروع القانون الجديد الذي لم يصوت عليه حتى الآن وطبقا للتشريع، إذ ما زال يحتاج إلى موافقة البرلمان، إلى إتاحة المزيد من الوقت للضحايا لمقاضاة مرتكبي هذه الجرائم بحسب المحامي سيباستيان.
وبحسب مشروع القانون الجديد، فإن ضحايا الاغتصاب القصر سيكون أمامهم فرصة لتقديم شكوى حتى عمر 48 عاما، لتزيد بذلك المدة التي يمكن التقدم فيها بشكوى، وسيحدد القانون أيضا سن 15 عاما ليكون العمر الذي لا يمكن اعتبار من يقل عنه موافقا على إقامة علاقة جنسية مع طرف آخر يبلغ من العمر 18 عاما أو أكثر، بحسب تأكيد كاتبة الدولة المكلفة بالمساواة بين الجنسين ورئيسة "جمعية أمي تعمل" مارلين شيابا، والتي تجهد في فتح النقاش حول أهمية تمديد فترة الإبلاغ عن التحرش لمدة 10 سنوات، لإعطاء المزيد من الوقت للضحايا اللائي يتعرضن لاضطرابات فقدان الذاكرة جراء الصدمة، كما يفرض القانون الجديد غرامات مالية على جرائم التحرش بالنساء من خلال التعديلات المتعلقة بالعنف الجنسي والتحرش، سيدفعها المتحرشون على الفور وستتراوح ما بين 90 يورو إلى 750 يورو، وقد تتم زيادة الغرامة إذا كررها المتحرش أو في حالة الظروف المشددة للعقوبة ويعمل على منح مكانة متساوية بين المرأة والرجل في الحيز العام بحسب ما قالته شيابا، في مقابلة لها مع إذاعة "آر تي إل" الفرنسية، الأمر الذي تتمنى سندرين بنوا أن يؤدي بالفعل إلى حماية الفرنسيات خلال ممارسة حياتهن في الحيز العام بدون خوف من التحرش أو الجرائم الجنسية.