الخدعة الكبرى

05 أكتوبر 2016

لقاء روزفلت والملك عبد العزيز في 1945 (Getty)

+ الخط -
المعاهدة التي وقعها الملك عبد العزيز آل سعود سنة 1945 مع الرئيس الأميركي، روزفلت، على ظهر المدمّرة الأميركية كوينسي في عرض البحر الأحمر، انتهت صلاحيتها مساء الأربعاء الماضي في واشنطن، بعد تصويت آخر عضو في الكونغرس على قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا) في تحدٍّ صارخ للفيتو الذي أشهره الرئيس الأميركي باراك أوباما ظاهرياً في وجه مشروع القانون الذي يعطي لعائلات ضحايا "11 سبتمبر" حقّ رفع دعاوى قضائية، للمطالبة بالتعويض أمام المحاكم الأميركية من كل دولة ( السعودية تحديداً) ثبت أنها تقف وراء عمليات إرهابية مالياً أو لوجستيكياً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. 
كانت ليلة الأربعاء طويلة في الرياض، حيث تعرّض بيت الحكم السعودي لأخطر هزة سياسية منذ تأسيس المملكة سنة 1932، فالقانون الذي يسمح لأكثر من ثلاثة آلاف أميركي برفع دعاوى قضائية على المملكة، لأن 15 من مواطنيها تورّطوا في الهجوم على مبنى البنتاغون ومركزي التجارة العالمية في نيويورك قبل 15 سنة، سيكون له ما بعده، وهو جزءٌ من خطة كاملة لإعادة خلط أوراق الشرق الأوسط المبعثرة أصلاً، فهذا الزلزال الذي ضرب أرض الحرمين ليس مجرد مبادرة تشريعية، وليس فقط ثمرة لوبي التعويضات الذي يريد ابتزاز المملكة، ووضع اليد على أكثر من 800 مليار دولار من أموالها الموضوعة في استثماراتٍ وسنداتٍ في أميركا. قانون "جاستا" أعمق من هذا بكثير.. إنه إعلان صريح لنهاية التحالف الأميركي السعودي الذي ظل قائماً أكثر من 62 سنة. وبمقتضاه، كانت أميركا تسهر على أمن السعودية واستقرارها. وفي المقابل، تضمن هذه الأخيرة تدفق النفط إلى الأسواق الغربية، بأسعار متحكّم فيها. جرى تمزيق وثيقة هذه الصفقة في الكونغرس، حين صوّت الديمقراطيون والجمهوريون معا، في شبه إجماع، لصالح هذا القانون، في إشارةٍ ولا أوضح لوجود قرار بفك الارتباط الأميركي مع السعودية، وإنهاء مرحلة.
السيناريو المحتمل أن يبدأ في الأسابيع المقبلة: آلاف الدعاوى القضائية ستتقاطر على المحكمة الاتحادية الأميركية لعائلات ضحايا "11 سبتمبر"، وللشركات الكبرى التي تضرّرت من أكبر عمل إرهابي يضرب أميركا منذ نشأتها. وسيتحرّك كل هؤلاء مسلحين بجيشٍ من المحامين والخبراء القانونيين الذين سيضعون أرقاماً فلكية لما يعتقدون أنها تعويضات مدنية عن خسائرهم في الأرواح والأموال والبنايات والمصالح، من جرّاء أحداث "11 سبتمبر". ولكي يثبتوا التهمة على الحكومة السعودية، سيطالبون بالإفراج عن الوثائق السرية في لجنة تحقيق الكونغرس حول 9/11، أو في أرشيف المخابرات الأميركية، في محاولةٍ لكشف الخيوط التي يزعمون أنها موجودة بين بعض الإنتحاريين السعوديين وهيئات محسوبةٍ على دولتهم. ولأن الكونغرس فتح الباب، فإن الإعلام سيخلق الجو الملائم لصدور أحكام ضد المملكة، ومعها سبشيع جواً عدائياً في أميركا ضد الرياض، سيدفع ساكن البيت الأبيض، ديمقراطياً أو جمهورياً، إلى ترجمه هذه المشاعر وتلك الأحكام إلى سياسات وقرارات ديبلوماسية.
إقرار قانون جاستا يعني رفع الحماية الأميركية عن النظام السعودي، ما سيضعف الرياض كثيراً أمام خصمها اللدود إيران، خصوصاً إذا استمرّت أسعار النفط في التدنّي، وهي ستستمر في النزول، حسب تقديرات جل الخبراء، لأن الفوضى المنتشرة في الدول المصدرة للنفط تجعل من التحكّم في الإنتاج مهمة شبه مستحيلة. ثم إن وضع اليد الأميركية على ثروة السعودية في أميركا وأوروبا معناه حرمان الرياض من مورد مهم في ميزانية المملكة. ومعناه، ثانياً، ضرب اقتصاد الريع الذي كانت السعودية تدبّر به الوفرة الاقتصادية والندرة السياسية، فقبل 24 ساعة قبل إصدار قانون جاستا، أصدر العاهل السعودي أمراً بتخفيض أجور الوزراء وأعضاء مجلس الشورى وكبار الموظفين، ما يعني بداية سياسةٍ تقشفية في مملكةٍ كانت تصرف بلا قيد أو خوف، ولشدّ الحزام هذا تبعات سياسية واجتماعية عميقة في البلاد.
هذا عن الداخل السعودي، أما عن الخارج، فإن زلزال "جاستا" سيُضعف من مكانة السعودية في العالم العربي، ومن تأثيرها السياسي والمالي على حلفائها، وعلى خصومها، خصوصاً إذا لم تردّ على هذه الخدعة الكبرى بإجراءات صارمة، وأولها الانسحاب من حرب اليمن، وإطلاق مسلسل إصلاحي في الداخل، والتحرّك لإعادة بناء الأمن القومي العربي الذي انهار منذ غزو العراق والذي صفقت له حكومات عربية، من دون أن تعي خطورته على الجميع.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.