الحُضن الأخير

26 نوفمبر 2015
كيفَ يكون الحُضن الأخير..؟ (العربي الجديد)
+ الخط -
"يا إم الشّهيد إحنا كلنا ولادك".. يُغنّيها لها أصدقاؤه بعد إعلان رحيله الأبديّ عن بيتها القرويّ الصّغير. هي تقف في صدمة، في حيرة على عتبة البيت، ما بين معالم وجهٍ فخور وآخر تأكله حَبس العَبَرات. أتعلمون ذلك الشّعور؟ عندما تريد أن تبكي، ولكنّك تمنع نفسك؟ أتعرفون ذلك الشّعور؟ وكأنّ صخرة في حلقك، لا تستطيع الكلام، لا تستطيع أيّ شيء..


ضوضاء حول بيتها، في حاكورتها، داخل كلّ غرفها. حتّى الحمّامات فيها أطفال الجارات ممن أسرعن لدار العزاء والمواساة. ضوضاء آلات الصّحف والتماع أضواء الكاميرات. ضوضاء أسئلة غبيّة "كيف شعورك يا إمّ الشّهيد؟"، وأخرى باللّغة الإنجليزيّة من قناة أجنبيّة ساهمت بلدها بثمن الرّصاصة التي اخترقت جبين ابنها.

أمّ شهيد تصفّق وتغنّي وتزغرد لابنها، وأخرى تطلب من النّساء أن لا يبكين، فابنها عريس في الجنّة، وثالثة تستغرب جفاف وجنتيها من الدّموع، لربّما لا يزال عقلها ينكر كلّ ذلك. وهناك تلك الأمّ وقد فقدت الأوّل فالثّاني واليوم ذهب الثّالث، تُحصي على أصابعها كم بقي لها، كم بقي لها من فتات قلبها لابنها الرّابع والأخير؟

لا زالت الضّوصاء في كلّ مكان، القهوة المُرّة، التّمر، انتهاء الماء البارد من الثّلّاجة، نقص في الكراسي، أواني الأرز واللّحم والدّجاج تدخل وتخرج ولأوّل مرة صاحبة البيت لا تقول "متوسخوش الأرِض". همسات مزعجة من كلّ زاوية تطلب منها الصّبر والاحتساب، فتقول في عقلها "يا ريت الكل يسكت، ولكو اسكتو".

كيفَ يكون الحُضن الأخير.. لأمّ تودّع ابنها الشّهيد..؟
في تلك اللّحظة الدّقيقة.. يوضع أمامها بالأبيض وجراحه مفتوحة، والخدش في شفاهه لا يزال ينزف. "جيبولي أنظفلو إيّاه، إنتو على أي مستشفى باقيين ماخذينه؟"، تنظّف له خدوده، تمسح على جبينه. في العادة كان يفتح عينيه ويقول "يمّا لسا بدري على القومة دشريني أناملي كمان ساعة"، أمّا الآن فلا شيء يتحرّك.. لا شيء.

كيف تخبر العشرات ممن حولها أن يرحلوا؟ إنّهم لم يكونوا هناك عندما أنجبته، كانت فقط هي معه. كيف تخبرهم أنّ اليوم هو يوم ميلاده من جَديد؟ ميلاد صامت، يحضره العشرات، تملأه النّكبات؟

"يلا يا حجّة بوسيه لازم نوخذه".. "لوين؟".. "يلا يا حجّة الله يرحمه يا رب. شهيد هاضا يا حجّة يا ريتنا شعرة ببدنه".

كيف يُخلع من بين يديها؟ مدركةً أنّها المرّة الأخيرة..
"خلّوني شويّ معه".. "ما بيصير يا حجّة لازم ندفنه. بوسيه نيّاله يا حجّة".. "يعني بدكو تبعدوه عنّي تودّوه تحت التراب؟ مش حرام؟".. وقلبها مكسور.. وحنجرتها مثقوبة..

تحضنه كما طَلَبَ منها العشرات حولها ممن لا تعرف حتّى أسماءهم.. تحضنه قبل أن يخطفوه منها.. تحضنه وتريد للعالم أن يسكت ولو لدقيقة.. تريد أن تسمع احتكاك جبينها بكتفه، احتكاك ذراعها الملتفّة حوله.. "إسكتو شويّ ودشروني معه".

تحضنه وكأنّها تحاول إلصاق قلبها بقلبه.. لعلّ النّبض يتسرّب إلى صدره.. فيعود له.. لعلّها تُحييه من جَديد.. تماماً كما أحيته نبضاتها وهو جَنين..

بعد دفنه سيذهب الجَميع وتبقى هي الّتي مدح الآخرون صبرها، ستبقى وحدها. لن تشفع كلمات المدح عندما تدخل غُرفته، تجلس على سريره فجراً. كلمات "اصبري" ستنساها وهي تلتفّ حول نفسها تحت أكوام ملابسه المبعثرة. ستشهق، ستخرج كلّ الدموع التّي حجّرتها الضّوضاء، ستشهق بنفس ألم لحظات خروج الرّوح، فأمّ الشهيد بعدها لا تهاب الموت فقط ذاقته.

"ليش دفنوك يا محمد ليش، ليش أخذوك ما شبعت منّك. مش قلتلّي رايح على السّوق؟ يمّا السوق مش من هضاك الطّريق يمّا"..

ما هو طعم القُبلة الأخيرة؟ حرارة الحُضن الأخير؟ ما هي الكلمات الأخيرة التّي تختارها لتسمعه إيّاها..
في لحظة مُفاجِئة.. على الأمّ أن تقوم بكلّ شيء لابنها.. لآخر مرّة أبداً..
ستتمنّى وهي متقوقعة بين ملابسه..
لو أنّها قبّلته أكثر.. حضنته بعمقٍ أكبر.. ورضيت عنه في أُذنيه همساً أعلى..

"رجعولي إيّاه" ..

(الأردن)
المساهمون