الحياة أقوى من الرصاص في سوسة

29 يونيو 2015
سياح يغادرون سوسة (الأناضول)
+ الخط -
كان يوم السبت غريباً في مدينة سوسة؛ مشحوناً بالتناقضات، ومستعصياً على فهم الوافدين إليها من أماكن لا تدرك طبيعة هذه المدينة وأهلها. كان الناس يضحكون، يبتسمون للمارة الذين لا يعرفونهم، وكان الجميع يتحدث إلى الجميع ويتعارف إليه، بلغات مختلفة وألوان من كل طيف. رغم ذلك، لم تستطع العيون أن تُخفي المأساة.

كان مشهد النساء والفتيات وهن يشعلن الشمع عند مدخل نزل "إمبريال مرحبا"، الذي وقعت فيه الجريمة الإرهابية، باعثاً للأمل. أعاد الى الإذهان دور المرأة في تونس، التي تصنع الهمم، وتتجاوز الآلام، وتفرض على الجميع أن يبقى واقفاً، وألا يسقط.

وعلى الرغم من أن المسيرة الليلية التي ذهبت في اتجاه الفندق، الذي أصبح قبلة الزوار والصحافة العالمية، قد ضمت أيضاً رجالاً وشباباً، غير أنها كانت نسائية في طيفها الغالب، بالحجاب وبدونه، تونسيات وأجنبيات، شابات وأمهات وجدّات وأطفال من كل الأعمار. 

ليلى جاءت مع طفلتها ابنة الخمس سنوات، التي ارتدت قميصاً من العلم التونسي، تقول لـ "العربي الجديد": "أنا لست أقل من تلك التي رفعت علم بلدها وجاءت تهتف باسم تونس"، وكانت تشير الى سائحتين نرويجيتين توشحتا بعلم بلادهما وكانتا تهتفان بحب تونس، وقالتا لـ "العربي الجديد" إنهما "باقيتان في هذا البلد الجميل تؤازران أهله في محنة تمر بالجميع".

لم تكن آريانا النرويجية وحدها التي أصرت على البقاء في تونس، فقد ذكر آمر مطار النفيضة الدولي لـ "العربي الجديد" أن عدد المغادرين من السياح بلغ الى غاية عشية السبت 1600 سائح من مطار النفيضة، ولكن أربع طائرات إنجليزية ذات سعة تقدر بـ1000 مسافر، عادت أدراجها فارغة من حيث أتت؛ لأن السياح الإنجليز رفضوا العودة على متنها، وأصرّوا على البقاء في تونس، مرجحاً أن يكون سبب موجة المغادرة في اليوم الأول الصدمة الكبيرة التي أحدثها الاعتداء الإرهابي.

اقرأ أيضاً: شظايا الإرهاب تُصيب السياحة بخسائر فادحة

وأفادت مصادر جهوية من سوسة وتجار وعاملون في الفنادق القريبة من مكان الاعتداء لـ "العربي الجديد" أن غالبية السياح في المحيط جرى نقلهم إلى فنادق أبعد، فيما توجه آخرون إلى مدينة الحمامات، علاوة على الذين غادروا المدينة بسرعة بعد الحادث.

لكن محمد، صاحب مطاعم ومحلات للصناعات التقليدية في العديد من الفنادق، يؤكد أن الضربة قاسية، وأنهم يتابعون أخبار الحجوزات الملغية والمؤكدة بأدق تفاصيلها، وأنهم يأملون في أن تكون موجة المغادرين مرتبطة بصدمة اليوم الأول، وأن كل أهل المهنة متعلقون بهذا الخيط الرفيع من التفاؤل. غير أنه ليس واهماً ويدرك أن الموسم السياحي الذي بدأ بنسبة تراجع تقدر بـ20 في المائة عن السنة الماضية، سيشهد تراجعاً كبيراً، وأن الموسم السياحي سيكون كارثياً في كل الحالات، ولكن الأمل يتمثل في الحدّ من هذا التراجع المخيف.

ولم يخف محمد غضبه من الحكومة بسبب تعاملها مع المجموعات المسلحة، ومع التسيب عموماً، داعياً إلى التعامل بقبضة من حديد مع المارقين عن القانون في كل نواحي الحياة، مشدداً في الوقت نفسه على ضرورة ألا يتحول ذلك إلى استبداد.

وأكدت مالكة فندق "إمبريال"، زهرة إدريس، خلال ندوة صحافية عقدتها السبت مع رئيسة منظمة أرباب العمل، وداد بوشماوي، أنّ عمال النزل أثبتوا حرفية عالية بحمايتهم للسياح وتفادي إصابات أكثر، مؤكدة أن الفندق سيبقى مفتوحاً لتقديم خدماته وسيحافظ على جميع العمال، في تحدّ للمجموعات الإرهابية، التي تريد أن تستهدف النموذج التونسي، وتعمل على إفشاله.

هذا كان المشهد الطاغي ليلة السبت في محيط ميناء القنطاوي الترفيهي الذي يضم سلسلة كبيرة من الفنادق والملاهي والمطاعم والفضاءات الترفيهية. وفي مسافة غير بعيدة، تحديداً في سوسة المدينة أو "حضرموت" التي تأسست منذ العام 1101 قبل الميلاد، أو "جوستينيا" نسبة إلى الإمبراطور جستنيان الأول الذي حكمها، كانت تسير تظاهرة حاشدة وغاضبة تنديداً بالإرهاب، حضرها عدد كبير من أعضاء الدولة، مثل رئيس مجلس النواب محمد الناصر ووزير التربية ناجي جلول ووزير الصحة سعيد العايدي ووزيرة السياحة سلوى اللومي، ووزير التشغيل زياد العذاري، وأمين عام "نداء تونس"، محسن مرزوق وأمين عام حركة "النهضة" علي العريض، وجموع غفيرة من التونسيين، الذين جاؤوا من كل مكان لرفع الصوت ضدّ الإرهاب.

واعتبر القيادي في "النهضة" العذاري، أن "المعركة ضدّ الإرهاب طويلة وقد نخسر منها جولات، ولكننا سنكسبها في النهاية". فيما أكّد القيادي في "نداء تونس" ناجي جلول أن "غزاة كثراً حاولوا احتلال مدينة سوسة من بحرها عبر التاريخ، ولكنها دحرتهم؛ وكذلك ستفعل بهؤلاء القادمين غزاة من فكر متطرف، وسيتم القضاء عليهم".

غير أنّ الصورة المتفائلة التي بدت عليها سوسة ليلة السبت لم تخف غضب أهلها، وغضب التونسيين عموماً، من يسر الطريقة التي تم بها قتل 38 سائحاً أجنبياً على يد مسلح واحد، كان يتنقل بكل هدوء من مكان إلى آخر في الفندق ويبحث عن الأجانب لقتلهم بكل وحشية وبرودة دم، ثم عاد أدراجه من حيث أتى إلى أن اعترضه رئيس مركز الشرطة باكودة وقضى عليه، وفق شهود عيان.

ولعل هذه النقطة هي أبرز سلبيات تعامل المؤسسة الأمنية مع مسألة الأمن السياحي الأعزل، وهو ما دفع وزير الداخليّة محمد ناجم الغرسلي إلى الإعلان عن تسخير وتسليح 1000 عنصر أمني سياحي داخل وخارج المنشآت السياحية، "وهو إجراء يتخذ لأول مرة في تونس، وسيتواصل بعد الموسم الصيفي، طالما تواصلت التهديدات الإرهابيّة"، بحسب تصريحه في ندوة صحافية، برغم ثقل التكلفة على ميزانية الدولة.

اقرأ أيضاً: تونس أمام امتحان الوحدة الوطنية لمحاربة الإرهاب

المساهمون