الحل الروسي في سورية: غروزني مثالاً
هل هناك فرصة للحل السياسي للحرب السورية المشتعلة منذ أربع سنوات؟ وهل أصبح النظام السوري جاهزاً لذلك؟ وما الذي دفع موسكو إلى التحرك الدبلوماسي، اليوم، بموازاة تحرك دي ميستورا الذي يكشف العجز الكامل للأمم المتحدة عن القيام بأي دور؟
في نظري، وحسب ما تسرب، حتى الآن، من معطيات، هناك بالفعل إرهاصات لبدء مفاوضات حول الأزمة السورية. لكن، ليس من أجل إيجاد حل للأزمة، يلبي الحد الأدنى من مطالب السوريين الذين أصبحوا ضحية صافية للمصالح الإيرانية والروسية والدولية، وإنما لتكريس المكتسبات التي حققها فرسان الحرب الحقيقيون، إيران وروسيا، وشرعنتها، وإنقاذ الجلاوزة الأشرار من حلفائهم "السوريين" الذين لم يترددوا في استخدام الغاز الكيماوي، لقتل أبناء وطنهم وأطفاله. وهم يسعون، في ذلك، إلى استباق المرحلة المقبلة التي يمكن أن لا تكون بعيدة جدا، والتي قد يضطرون فيها، مع انهيار حصان ركوبهم أو انكساره، إلى التفاوض على تفكيك نظام الاحتلال الذي فرضوه على السوريين.
لو كانت لدى الروس والإيرانيين إرادة حقيقية في إنهاء الحرب السورية، لما تطلب الأمر كل هذه المناورات والتحضيرات الجديدة، والتصريحات المواربة والمتناقضة، ولا الاجتهاد في انتقاء المعارضين، وفرزهم، حسب الطلب. فماذا كان بإمكان طهران وموسكو أن تطلبا من المعارضة أكثر من أن تتخلى عن هدفها الأول في إسقاط النظام، وأن تقبل الدخول في حكومة انتقالية، مناصفة مع نظام القتلة نفسه، وقد قبلته؟ وماذا كان في وسع المعارضة أن تقدمه للنظام، أكثر من التصالح مع نظام قاتل، بعد مئات آلاف الشهداء وملايين المشردين، وتدمير المدن وتسليمها للمتطرفين من كل الآفاق؟ وما المشكلة في العودة إلى مثل هذا الحل الذي اتفقت عليه الدول ومجلس الأمن، وقبلت به كل أطياف المعارضة، إنقاذاً لما تبقى من البشر والحجر؟
الجواب أن المشكلة في الحل الذي رفضته هذه القوى الثلاث في جنيف، القائم على مبدأ الانتقال السياسي الذي اتفق عليه الجميع، باستثناء إيران والنظام، أنه يخاطر بأن يقود إلى وضع حد للاحتلال الإيراني والوصاية الروسية على سورية ومنظومة القتل والإرهاب التي يستخدمها للحفاظ على نفسه، حتى لو كان ذلك على مدى متوسط. المطلوب، بالعكس، من أجل تكريس الاحتلال والوصاية الإبقاء على منظومة القمع والإرهاب التي يمثلها ما يسمى النظام السوري الذي أصبح مرتكزا وحيدا لهما. ليس هناك أي تفسير آخر للتخلي عن إطار مفاوضات جنيف لصالح حلول بهلوانية ضعيفة، إن لم يكن الهدف تشليح المعارضة أوراقاً وتنازلات أكثر، وتحويلها، في النهاية، إلى خاتم في إصبع نظام الاحتلال المثلث، والتغطية على دناءة الأهداف، ولا أخلاقية المصالح التي تكمن وراءها.
ليس لهذا الطرح أي علاقة، كما تدعي موسكو، بالحفاظ على مؤسسات الدولة. فلا يضمن بقاء الدولة ومؤسساتها في كل مستويات الإدارة المدنية والاقتصادية والاجتماعية، والتي ليس لأي سوري مصلحة في تفكيكها أو التخلي عنها، سوى السلام القائم على التفاهم الحقيقي بين أبناء الشعب السوري، وتوصلهم إلى تسوية تنهي عهد الاحتلال والوصاية والقتل المنظم. ما يطالب به الروس والإيرانيون المحركون للأسد ومنظومته هو الحفاظ على أدوات الاحتلال الطويل: الجيش الذي تحول إلى ميليشيا فاشية، ومنظمات المرتزقة الأجنبية الممولة على أسس طائفية، وأجهزة الأمن العسكري والسياسي التي تشكل النواة الصلبة للسلطة المافيوية. فليس هناك أي أمل في استمرار النظام المشترك، الإيراني الروسي المافيوي، من دون حماية هذه الأجهزة من أي تغيير، والإبقاء عليها في يد الأسد، أو من يحل محله، ويقوم تماما بدوره، من الطغمة القاتلة نفسها.
وبينما يعد الروس المقصلة لقطع رأس الثورة، ربما بمساعدة بعض أبنائها الذين أعمى أبصارهم البحث عن دور، أو شوشت حساباتهم العاطفة الأبوية الفائضة، تتطوع الأمم المتحدة، عبر مبعوثها، ستيفان دي ميستورا، بحمل المنشفة لمسح الدماء المسفوكة، ومواساة أيتام الثورة بقطرة من الماء وكسرة الخبز التي حولها حصار الجوع إلى سم زعاف.
لم يطلق الروس والإيرانيون، بعد أن أعدموا مؤتمر السلام في جنيف بشكل متعمد، وبقسوة لا حدود لها، مناورتهم البائسة الجديدة، رفقاً بالسوريين، أو تحننا عليهم. فعلوا ذلك، لأنهم أدركوا أنهم وصلوا، في استخدامهم القوة وتوسعهم وسيطرتهم، إلى أقصى ما يمكن لهم فعله، ولم يبق أمامهم، بعد ذلك، إلا الانحدار. وفكروا أن من مصلحتهم أن يستخدموا التطلع الشعبي والعالمي للسلام من أجل تكريس مكاسبهم، وفرض شروطهم على المعارضة. وما يقترحونه حلاً، كما تسرب من معلومات حتى الآن، هو تطبيع/تجميد الأوضاع والتوازنات والمصالح القائمة، لجماعات النظام وأمراء الحرب، وإخراجها بعد مفاوضات قرقوشية، في صورة حل سياسي يكرس، بالطرق السياسية والحيل والمناورات، ما لم يعد بإمكانهم الحفاظ عليه بالوسائل العسكرية، كما يدق إسفيناً عميقاً في جسد المعارضة الهش والضعيف والمقسم أصلاً.
فقد خسر النظام، في سنوات المواجهة الطويلة الماضية، الكثير من قدراته العسكرية، وإلى حد كبير، السيطرة على الآلة الميليشيوية التي استخدمها، حتى الآن، ضد الشعب والمعارضة، واستنفد طاقاته، وأصبح من الصعب عليه أن يجددها بسهولة. ولم يعد أمامه إلا مواجهة المرحلة المقبلة التي ستشهد فيها هذه القوى نفسها حركة الارتداد عليه، وعلى نفسها، أمام انعدام أي أمل، بعد اليوم، للحسم العسكري التي وعدت به. وهو، منذ الآن، يعتمد على شراء خدمات المرتزقة المحترفين من أفغانستان وغيرها، لسد الثغرات العديدة في جبهاته.
فطهران، الممولة والمخططة للحرب والمستفيدة الرئيسية منها، تواجه، بعد فشل نظامها في التوقيع السريع على الاتفاق النووي مع الغرب، تقلص مورادها المتزايد مع الانخفاض المتواصل في أسعار النفط، واستمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ سنوات طويلة. ولن يكون في وسعها مواجهة أعباء حرب الاستنزاف التي أطبقت عليها كالفخ، وليس من المؤكد أن الإيرانيين قادرون على تحملها إلى فترة طويلة.
أما روسيا التي وصلت إلى طريق مسدود في أوكرانيا، فقد يئست من إمكانية تحقيق حسم عسكري ساحق، على مثال الحل الذي حققته هي في غروزني عاصمة الشيشان، أي الاستسلام الكامل للمعارضة. وهي تعتقد أن بإمكانها الاستفادة من معطيات الحرب الدولية ضد الإرهاب من أجل تعويم نفسها دبلوماسيا، وفتح تجارة جديدة رابحة مع واشنطن التي تفتقر لأي خطة في سورية، والمراهنة على انقسام المعارضة، لتهميشها وتقليص مطالبها وتدجينها. وليس هناك ما يمنع من تجريب طرائق أخرى، مع تراجع قدرة الطرائق العسكرية على الحسم، وتفاقم كلفها المالية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، من أجل تحقيق الهدف في هزيمة الثورة السورية، وتأكيد شرعية النظم، مهما كانت السياسات .
بالنسبة لنا، نحن السوريين، أي حل، مهما كانت مظاهره الآنية، لن يكون مقبولاً، ولا مفيداً، ولن يشكل مرحلة على طريق إنهاء المحنة الإنسانية والسياسية السورية، ما لم يتضمن: 1. تفكيك نظام الاحتلال الذي دمر حياة الشعب السوري في السنوات الأربع الماضية بأركانه الثلاثة: الميليشيات المرتزقة المرتبطة بطهران والممولة منها والفيتو الروسي الذي يجسد الوصاية على البلاد، ومنظومة القتل المنظم والإبادة الجماعية المافيوية للأسد 2. الإقرار الصريح والواضح بحق الشعب السوري الكامل في تقرير مصيره، تحت إشراف الأمم المتحدة، وليس أي دولة أخرى، وبضمانة رسمية وعلنية منها. 3: محاسبة المسؤولين عن الجرائم الوحشية وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت، ولا تزال، في السنوات الأربع الأخيرة. وسيكون من العار على الامم المتحدة وجميع الدول والقوى السياسية المعارضة وغير المعارضة أن تقبل القتلة وفرسان السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة شركاء في إعادة إعمار ما هدموه، بدم بارد وعن وعي وسابق تصميم، وأن يعيد توحيد الشعب من استخدم كل الوسائل الدنيئة لتقسيمه وتمزيقه، وأن يؤهل الدولة، من حولها، إلى آلة للحرب والقتل والدمار، وأن يبني الامة من سلمها للاحتلال. من مثل هذه الشراكة الخبيثة لا يمكن أن يولد شعب، ولا أن تنتعش سياسة، ولا أن تنهض أمة، أو تقوم دولة أو ينشأ اقتصاد. إنها وصفة الحرب الأهلية الدائمة، والتعطيل الكامل لفرص استعادة سيادة الدولة وحكم القانون وعمل المؤسسات، ومن وراء ذلك تكريس نظام الاحتلال الداخلي والخارجي، على ما يأملون أن يكون حطام ثورة الفقراء والمعذبين والمشردين من أبناء سورية الشهيدة. لكنهم واهمون.