يعاني أهالي حلب التي كانت توصف بالمدينة التي لا تنام، من انقطاع شبه دائم في التيار الكهربائي، إذ تغرق المدينة ومنذ أشهر عدّة في ظلام دامس. ولا يحظى الحلبيّون بالكهرباء إلا في ما ندر. فتأتي أحياناً كالزائر المرغوب به، والذي يباغت أصحاب البيت فجأة. ويستنفر كل أفراد العائلة لاستقباله والترحيب به بعد طول غياب. بعضهم يهرع لشحن المصابيح (الشواحن الكهربائيّة) والهواتف الخلويّة، وآخرون يسارعون لإنجاز كل الأعمال المنزليّة التي تحتاج إلى الكهرباء كالغسيل وتشغيل سخانات المياه للاستحمام، وغير ذلك من الأمور.
تأقلم الحلبيّون واعتادوا انقطاع الكهرباء لفترات طويلة منذ نحو سنة وحتى الآن. لكن الحال بدأت تتحوّل من سيئ إلى أسوء. في السابق كانت الكهرباء تأتي فقط لمدّة ثلاث ساعات في اليوم، أما الآن فكثيراً ما يعيش الحلبيّون أسبوعاً كاملاً بدون كهرباء، إن لم يكن أكثر.
حلول بديلة
وفي ظلّ هذا الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي، كان لا بدّ للحلبيّين من أن يتأقلموا ويتغلبوا على صعوبات العيش من خلال ابتكار حلول بديلة للمشاكل والعقبات التي تواجههم.
وإذا كان من المألوف أن تجد هنا محالاً لبيع الشواحن الكهربائيّة وأخرى لبيع شواحن أجهزة الخلوي، فإنه ليس مألوفاً وجود محال لشحن هذه الأجهزة بالأجرة.
لكن هذا ما فعله أبو فايز (54 سنة)، الذي فتح دكاناً صغيرة في أحد أحياء حلب الواقعة تحت سيطرة قوات النظام. ويقول أبو فايز "بسبب الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي، فكّرت بشراء مولّد للمحل حتى أحافظ على المنتجات التي تحتاج إلى التبريد، بالإضافة إلى تغذية شواحن منزلي الكهربائيّة وجهازي المحمول. لكن بعد فترة، خطر لي أن أقوم بشحن الأجهزة المحمولة للزبائن مقابل مبلغ مالي بسيط. وقد لاقت هذه الفكرة رواجاً وبات العديد من الجيران والزبائن في الحارة يقصدونني لشحن أجهزتم وشواحنهم. في الحقيقة لقد كانت هذه الفكرة مفيدة لي وللناس. فمن ناحية وجد السكان وسيلة لشحن هواتفهم الخلويّة ومصابيحهم الكهربائية، ومن ناحية أخرى فإن ما يأتيني من عائد مادي لقاء هذه الخدمة يعوّض عليّ ثمن البنزين الذي أشتريه للمولّد".
وثمّة من عمل على تطوير فكرة أبو فايز والإضافة إليها. فقد اشترى أبو يوسف (48 سنة) الذي يملك دكاناً لتصليح الأدوات الكهربائيّة، مولداً كهربائياً كبيراً ومطحنة، وراح يطحن البرغل والفريكة للزبائن لقاءً بدلٍ مادي. يقول أبو يوسف "استلهمت فكرة هذا العمل من حاجات الناس اليوميّة التي لا يستطيعون الاستغناء عنها بسبب غياب الكهرباء. فمن الممكن أن نستغني عن مشاهدة التلفاز أو استخدام الكمبيوتر أو أي شيء من هذا القبيل، لكن لا أحد يستطيع الاستغناء عن الطعام. أقوم بطحن جميع أنواع الحبوب والبقوليات كالبرغل والعدس والحمص، للأهالي ولبعض المحال التجاريّة والمطاعم كمحلات الفلافل والحمص. وقد حقّقت دخلاً لا بأس به من هذا العمل".
في حلب، ليس من المستغرب رؤية سيارة مركونة وقد فتح غطاء محرّكها أمام أحد المباني. لكن أن تجد كابلات ممدودة عبر النافذة من سيارة إلى داخل المنزل، فهذا أمر قد يثير استغرابك للحظات، قبل أن يخرج صاحب البيت مهرولاً وهو يصرخ أن مباراة كرة القدم على وشك أن تبدأ. وهو سيشرح لك على عجل أن بطاريّة سيارته هي وسيلته الوحيدة لتزويد تلفازه بالكهرباء حتى يتمكّن من مشاهدة المباراة التي يتواجه فيها فريقه المفضل مع فريق آخر.
وبحسّ الدعابة الحلبي الذي أسبغت عليه أعمال القتل والحرب سخرية حادة، يؤكد ميشيل أن الكهرباء ليست اختراعاً. ويقول ضاحكاً وساخراً "الكهرباء هي بطاريّة سيارة وكبل تشبيك بملقطيْن وكبل للمبات "ليد".. هي الوصفة ذاتها مع زيادة حجم البطاريّة وسعتها. وأنا أقوم بتشغيل جهاز التلفاز والثلاجة بواسطة بطاريّة سيارتي لساعات معدودة في اليوم. وهذا أفضل من لا شيء".
لكل شيء ثمنه!
إلى ذلك، أضافت المقاهي في حلب بمعظمها بنداً جديداً على الفواتير، هو بند الطاقة. فسعر فنجان القهوة مثلاً في أثناء توفّر التيار الكهربائي "النظامي" إن وجد، يختلف عن ثمنه في أثناء تشغيل المولدات الكهربائيّة، بالإضافة إلى أن المقهى هو المكان الذي يقصده الكثيرون لشحن هواتفهم الخلويّة لتبدأ بعدها رحلة البحث عن شبكات الإرسال والإنترنت.
ومع حلول فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، نشطت كذلك المحلات التي تبيع الألواح المثلجة أو أكياس الثلج للبيوت والمحال التجاريّة. ويقول محمد (25 سنة) الذي يعمل في بيع قطع الثلج، "في الشتاء كان الناس يستعيضون عن البرادات لحفظ أطعمتهم، ببرودة الطقس. لكن مع حلول الصيف وارتفاع درجات الحرارة، اختفى هذا الحل ليظهر بدلاً عنه ’البوظ‘ عبر تجميد المياه". يضيف "أنا أبيع يومياً أكثر من 50 لوحاً من ’البوظ‘ للمنازل والمحلات التجاريّة، بعد أن أقوم بتجميدها في ثلاجات تعمل على مولدات كهربائيّة".
ساعات الظلام تمتدّ في حلب، ووقت فراغ الحلبيّين طويل. ولتزجية هذا الوقت و"تقطيعه"، عادت رقع البرجيس وطاولة الزهر وورق الشدّة للظهور بكثرة في منازل الحلبيّين. فهي ألعاب وتسالٍ لا تحتاج إلى كهرباء. ربما تحتاج فقط إلى ضوء خافت، وإلى الوقت الذي يبذخ الحلبيّون بتزجيته.
مؤيد، شاب عشريني يمتلك كشكاً صغيراً على مفترق طريق في منطقة الجميليّة. هو أضاف تفصيلاً صغيراً على محلّة المتواضع جعله يكتظّ بالرواد من الشبان الصغار، وهو طاولة "الفيشة" الخشبيّة. يقول مؤيد "طاولة الفيشة هي وسيلة لإضاعة الوقت بجدارة. والحلبيّون يمتلكون الكثير منه، كذلك فإنها استثمار سهل ومربح ولا يحتاج إلى مكرمة حكوميّة أو دوليّة. فالخشب ما زال متوافراً والحمد لله!".
حكايا الحلبيّين عن طرق التفافهم على الواقع اليومي السيئ الذي يعيشونه نتيجة غياب الكهرباء، كثيرة ولا تنتهي عند حدود معيّنة. ويبدو أن الحياة لن تنتهي عندهم بانقطاع التيار الكهربائي أو غيره من متطلبات الحياة اليوميّة. فمن لم تقهره البراميل المتفجّرة، لن يقهره انقطاع الكهرباء.