تولي تركيا، منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة أواخر عام 2012، أهمية متزايدة لكل ما له علاقة بـ"الحلال"، فمن الأغذية والمنتجات الصناعية ومن ثم السياحة، وصولاً إلى تقديم الحكومة إلى البرلمان أخيراً، مشروع قانون يدعو إلى تشكيل وكالة لاعتماد الحلال، لتكون السلطة الوحيدة المسؤولة عن منح شهادات للمنتجات الممثلة للحلال، صناعية كانت أو سياحية أو مصرفية.
ولا يأتي- ربما- سعي تركيا إلى الحلال لأن 99% من سكانها مسلمون ويفضلون كل ما ينتج وفق الشريعة الإسلامية فحسب، بل لأن تركيا تسعى إلى أن تكون قبلة الدول الإسلامية، اقتصادياً، وربما بوصلتهم للتعاطي "الحلال" سياسياً، فهي الدولة الإسلامية التي تعتمد تشريعاً علمانياً، دون أن تحد من أي حريّات وتطلعات يريد الأتراك، أو من هم في تركيا، اعتناقها.
فأن نقول، على سبيل الذكر، سياحة حلال، فهذا لا يعني التعدي على السياحة الكلاسيكية أو حقوق ومطالب السياح غير المسلمين. لكن الاستراتيجية التركية، ولاعتبارات شتى، تحاول إعطاء السائح الإسلامي حقوقه وخصوصيته، التي قد لا يلقاها في مقاصد أو دول غير تركيا.
وعلى ذكر السياحة الحلال، والتي يمكن تعريفها بأبسط الكلمات، بأنها "القيام بالنشاطات السياحية وفق أنظمة وتعليمات الشريعة الإسلامية" أي لا اختلاط ولا كحوليات ولا أغذية محرمة، وطبعاً، خلو المواقع السياحية الحلال من صالات الرقص والمقامرة ووجود مساجد، أو أمكنة مخصصة لممارسة الطقوس الإسلامية وإقامة الصلوات.
وهذه الشروط البسيطة، ليست بالصعبة على بلد إسلامي يولي السياحة شأناً عظيماً، لما تدره من عائد ومساهمة في الناتج المحلي، أو لما تحمله تركيا على السياحة من ترويج، لمواقف تصل حد السياسة والأحلام بقيادة العالم الإسلامي.
فإن كانت القصة أكلا شرعيا وترفيها شرعيا وفنادق حلال، فليكن، وها هي تركيا تؤهل 150 فندقاً لتكون حلالاً، وهو نصف عدد الفنادق الحلال في العالم، و160 منتجعاً للسياحة الحلال من أصل 350 منتجعا في العالم، وتوفر مستلزمات السياحة الشرعية، لتتقدم، في العام الفائت، أربع مراتب وتبلغ الثالثة عالميا بين دول منظمة التعاون الإسلامي، كأعلى وجهة في مؤشر السفر العالمي للمسلمين، الصادر عن ماستركارد 2016، بعد ماليزيا والإمارات.
ولأن في السياحة الحلال، إرضاء للزبون بما يتناسب مع تطلعات المضيف، بدأت تركيا بتأهيل مدن تركية عدة، لتكون سمتها السياحة الحلال، مثل أنطاليا ومرمريس، وأجزاء من إسطنبول وإزمير وطرابزون وبقية مدن البحر الأسود، لتنفرد مدينة ألانيا بصدارة السياحة الحلال، بعد أن اعتمدت الأحكام الرئيسية في الشريعة الإسلامية، كتحريم الكحول والحرص على تقديم اللحوم والدواجن المذبوحة وفق الشريعة الإسلامية، إضافة إلى توفير مسابح خاصة للنساء ومساجد للمصلين.
ويزيد الاهتمام التركي بهذا النوع من السياحة، بعد رغبة 51% من السياح المسلمين في خدمات السياحة الحلال، وتنامي عائدات هذا القطاع، بعد أن وصل عدد السياح، العام الماضي، إلى 1.2 مليار سائح، منهم 110 ملايين سائح مسلم أنفقوا 150 مليار دولار، وكانت صدارة الجذب وقتذاك لماليزيا. ويتوقع معهد دراسات المواصفات الأميركي نمو هذا القطاع حتى عام 2020 بنسبة 4.7% سنوياً.
ها إن لم نأت على حقيقة تؤكدها الإحصاءات، بأن السائح المسلم، ووفق التصنيف العالمي، هو مستهلك نموذجي، باعتباره الأصغر سناً ويمتلك الدخل الأكبر، ما جعله قادرا على السياحة والترحال والإنفاق، وجعل منه هدفاً للجذب يتهافت عليه المتسابقون.
وما قيل عن السياحة الحلال ينسحب، وبنسبة أكبر، على الأغذية الحلال، نظراً لاعتمادها في تركيا كمطلب شعبي، قبل النظر إلى حجم سوق الأغذية الحلال، والذي ناف على 6 مليارات دولار، بحسب كلمة حسن علي جسور، رئيس جمعية رجال أعمال الأناضول (أسكون)، خلال الدورة الخامسة لمعرض المنتجات الحلال للدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي (إكسبو حلال) الذي اختتم أعماله في إسطنبول، في 26 أكتوبر الجاري، أو حتى الأحلام التركية لبلوغ حجم السوق 20 مليار دولار خلال العقد القادم، واللحاق أو التفوق على إندونيسيا والسعودية، الرائدتين في سوق الغذاء الحلال في العالم.
والحال عينه ينسحب على القطاع المصرفي والتأميني، إذ شهدت تركيا، ومنذ عام 1984، افتتاح بنك "البركة ترك" ليكون أول مصرف إسلامي في البلاد، ليلحقه بنك "كويت ترك" في عام 1989، ثم مصرف "تركيا فاينانس"، والبنكان الحكوميان "الزراعة" و"وقف"، ليصل عدد البنوك الإسلامية حاليا في تركيا إلى خمسة بنوك، من أصل 52 بنكا تركيا تتوزع بين 3 بنوك حكومية، و10 خاصة، و21 بنكا أجنبيا، و13 مصرفا استثماريا، و5 بنوك إسلامية.
وشكّل مجموع الأصول في البنوك الإسلامية التركية، خلال العام الجاري، 5.10% من نسبة جميع أصول البنوك في تركيا، مقارنة مع أقل من 4.5% العام الفائت. كما بلغت أرباح البنوك الإسلامية التركية عن نفس الفترة 759 مليون ليرة تركية.
وتمنح تلك المصارف سلعاً "حلالاً" عبر القروض غير الربوية وإصدار صكوك إسلامية، بدأها "الكويت بنك" عام 2010، ثم تبعته الخزانة التركية عام 2012، بإصدار صكوك بقيمة 1.5 مليار دولار، من ثم بنك "البركة ترك" بإصداره صكوكا بقيمة 350 مليون دولار في عام 2014، لتصل قيمة الصكوك في السوق التركية أكثر من 8 مليارات دولار.
وأخيراً، أعدت تركيا البنية التحتية لإطلاق نظام التأمين التكافلي "التأمين من دون فائدة"، ليدخل حيز التنفيذ ربما قريباً، ليتم تجميع أموال المؤمّنين في "صندوق المخاطر"، ليتم استثمارها وتدويرها بما ينعكس على المشاركين.
نهاية القول: ربما مصدر قوة الاقتصاد التركي، يأتي أولاً من تنوّعه، فلا السياحة إن بارت، كما إبان الانقلاب الفاشل، العام الفائت، يمكنها أن تضربه في مقتل، ولا ضنّ الاستثمار يمكن أن يصيبه بالعرج.
ولأن في الإنتاج الحلال ميزة وعامل قوة إضافية، سلكته تركيا منذ نيف وعقد من الزمن، ها هي تسارع لامتلاك كل أدواته، واضعة نمو المنتجات الحلال الذي أشار إليه تقرير منظمة التعاون الإسلامي، العام الفائت، نصب عينيها "شهد الطلب الدولي على المنتجات الحلال نموا سريعا، بعد أن وصل إلى أكثر من 2.3 تريليون دولار في عام 2015".
وتشكل صناعة الأغذية والمشروبات أكبر حصة من هذه الصناعة، حيث تهيمن على 67% من مجموع التجارة في المنتجات الحلال بقيمة 1.4 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى نحو 1.6 تريليون دولار في بداية عام 2020.