الحق في امتلاك الحقائق

15 يناير 2018
الخرطوم وسط عاصفة رملية (عبد الله أولويورت/ الأناضول)
+ الخط -
رفعت مدينتي رأسها عسى أن يكون علاجها من ضمن مجموعة التعديلات الدستورية الأخيرة. لكن، لا شيء. فعادت لتطمر كامل جسدها في النفايات. الخرطوم التي كانت حتى عام 1950 الأجمل والأكثر نظافة بين العواصم الأفريقية، صارت من بين أكثر عواصم العالم تلوّثاً بالغبار مثلما تفيد الوثائق. وبشهادة الخبراء، فإنّ ما اعتراها هو نتيجة الارتباط المريض بأصغر وحدات الدولة (المحليات) وفوضاها. وقد أُدخِل إليها نظام شركات النظافة، لكنّها ما أفلحت إلا في وسائل تحصيل الرسوم.

تمدّدت العاصمة أفقياً لتبتلع مزارع كانت تكفي حاجة السكان من الخضراوات، وتحوّلت إلى أراض خصصت للسكن ولم تبقَ سوى مساحات ضيّقة للزراعة. هناك، يُصار إلى الاستعانة بالمخصّبات والمعالجات الكيميائية المولّدة لأمراض الكلى والسرطانات، فامتلأت المشافي وفاضت. ومنطقة الحزام الأخضر جنوبيّ العاصمة التي خصصت في السابق للتخلص من مياه الصرف الصحي المعالجة، بيعت كذلك كأراض مخصصة للسكن من دون مراعاة لما قد يصيب ساكنيها من أمراض بسبب تلوّث تربتها.

لم تعد الحشرات من قبيل الناموس والذباب تمارس حيلها القديمة من أجل البقاء، إذ لم تعد وحدات الدولة تعمد إلى مكافحة منظمة لها، فلجان الأحياء الشعبية المنوط بها الأمر - وفقاً لقانون إنشائها - تتعلل أنّ المحليات تتعاقد مع شركات خاصة من أجل عمليات جمع النفايات إلى جانب عمليات الرش ومكافحة الحشرات. لكنّ الشركات تشير إلى أنّها تعمل وفق عقود ملزمة، ولو أخفقت لكانت أوقفت عن العمل. وهنا يتساءل المواطن العادي: أين الخلل؟

امتلاك الحقيقية جزء أصيل من حقوق المواطنة. وفي ظلّ الوعي الحقوقي والقانوني الذي أسهمت فيه بقدر كبير منظمات المجتمع المدني السوداني، صار أمر الوعي ثميناً في ما يخصّ توليد الخطوة الثانية من خطوات التغيير وهي الاهتمام. وعلى الرغم من أنّ المادة (11 ــ 1) من دستور السودان لعام 2005 تؤكد أنّ "لأهل السودان الحق في بيئة طبيعية نظيفة ومتنوعة، وتحافظ الدولة والمواطنون على التنوع الحيوي في البلاد وترعاه وتطوره"، فإنّ الاهتمام الرسمي بإنفاذ هذا الحق تشوبه شوائب كثيرة.

ويؤكد المهتمون بهذا الشأن أنّ الأولوية القصوى هي لبناء ثقافة بيئية لدى المسؤولين أولاً، ثمّ العمل على ترسيخ السلوك البيئي القويم لدى الجميع. ولضمان مؤسسات تُعنى بهذا الشأن، يرى بعض المهتمين ضرورة فصل القضايا البيئية عن القضايا السياسية، مثلما يقول المدير السابق للهيئة القومية للغابات، الدكتور عبد العظيم ميرغني. أمّا بعض آخر، فيرى أنّ كل القضايا تتصل ببعضها بعضاً وأنّ الغائب الوحيد في هذا الشأن هو المسؤولية المجتمعية. فالسياسي هو مواطن قبل أن يكون سياسياً. وإن ضعفت التربية المواطنية وليس الوطنية لدى السياسي، فلن ننتظر من القانون أن يحلّ محل الضمير البيئي.

(متخصص في شؤون البيئة)

المساهمون