الحقيقة الضائعة في مصر.. بين المناكفات السياسية والاستقطاب الأيدولوجي

15 اغسطس 2016
+ الخط -

أواخر يونيو/حزيران الماضي، نشر الصحافي المصري ياسر الزيات، مقالاً بعنوان "هل كانت ثورة مخابرات" قدم فيه عرضاً لكتاب “حروب المياه: قصة الصراع القادم في الشرق الأوسط”، للصحافي البريطاني جون بولو" والصحافي البريطاني من أصل مصري عادل درويش.

يتحدث الكتاب عن خطتين يزعم أن المخابرات العامة المصرية وضعتها للانقلاب على الرئيس الأسبق أنور السادات، في حال تنفيذه مطلباً إسرائيلياً بمد مياه النيل إلى إسرائيل. وينتهي المقال بتساؤل الكاتب حول قدرة أجنحة في النظام على التدخل إذا رأت ضرورة لذلك، وما إذا كانت أجهزة الدولة قد سمحت بتنامي الغضب الشعبي وتغذيته وتركه يتراكم على مدار سنوات ضد مبارك حتى اندلاع ثورة يناير.

لاقى المقال ردود أفعال واسعة، إذ قام بنشره عدد كبير من الصحافيين والنشطاء، وشهدت مواقع التواصل نقاشات حول حقيقة الطرح الذي يقدمه المقال، وسط ميل نسبة كبيرة من المتناقشين إلى تصديق الروايات الواردة في الكتاب وتأييد تساؤل الكاتب في نهاية المقال.

لكن المفارقة أن هذا المقال يتشابه بصورة كبيرة جداً مع ما سبق أن قاله أمين العلاقات الخارجية بحزب الحرية والعدالة، محمد سودان، المنتمي لجناح القائم بأعمال المرشد محمود عزت، عندما حل ضيفاً على قناة "التلفزيون العربي" قبل شهرين بالضبط، إذ قال إنه "لا يعتبر 25 يناير ثورة، بل انتفاضة زجت بها المخابرات العسكرية الشعب المصري والإخوان المسلمين للاستيلاء على السلطة من حسني مبارك وزوجته ونجله".

لكن وقتها اختلفت ردود الأفعال كثيراً، إذ تعرض الرجل لحملة هجوم شرسة على ما قاله، معتبرين أن ذلك يشبه خطاب الفلول وأنصار النظام العسكري الحالي عن ثورة يناير، واستغلت وسائل الإعلام المؤيدة للنظام تلك التصريحات ونشرتها، حتى أن "محمد منتصر" المتحدث الرسمي باسم الجبهة الأخرى المناوئة لجبهة محمود عزت، صرح أن حديث سودان "قول شاذ لا يعبر عن الجماعة ومنهجها" حتى اضطر الأخير إلى الاعتذار عن تصريحه بعد ذلك. قائلاً إن "الألفاظ خانته للتعبير عما في داخله"، وإن ما قصده هو أن المخابرات العسكرية والمجلس العسكري استغلا الاحتقان الموجود بالشارع ضد الداخلية وتفاقم تجاوزات الشرطة، ونزلوا الشارع بحجة حماية الثورة وأعلنوا شعار "الجيش والشعب إيد واحدة".

لا نناقش هنا صحة هذا الكلام من عدمه، لكن تهتم هذه المادة، برصد وتحليل لماذا تختلف ردود الأفعال على نفس مضمون النقاشات الدائرة بين النخبة المصرية وتحديداً في فترة ما بعد ثورة 25 يناير، فقط تحت تأثير عامل وحيد هو شخصية المتحدث؟ وما دور المناكفات السياسية والاستقطاب الأيدولوجي في هذا الأمر؟


إيلي كوهين مصر

بعد وقوع الانقلاب العسكري مباشرة، روجت مواقع وشخصيات مناهضة للانقلاب، لشائعات تتحدث عن أن والدة السيسي أصلها يهودي. في ذلك الوقت أشبع المتابعون من مختلف التيارات تلك الشائعة سخرية وانتقاداً، كما جرى ربطها ما شابهها من أخطاء سابقة للإسلاميين من ترويج لأخبار مكذوبة. وبغض النظر عن صحة المعلومة من عدمها، إلا أن كتاباً وشخصيات من المعسكر المحسوب على مناهضة الإسلاميين، ومعظمهم كانوا من مؤيدي الانقلاب في بدايته، وعدد منهم كانوا قد سخروا من ترويج تلك الشائعات والجزم على أنها معلومات، رددوا تلك الشائعة وأخذوا في الترويج لها بشكل متصاعد، على النحو الذي فعله خصومهم من الاسلاميين.

ويعد مقال الكاتب عبد الناصر سلامة رئيس تحرير الأهرام السابق في مارس/ آذار الماضي بصحيفة المصري اليوم هو أخطر تلك الإشارات، إذ عرض قصة الجاسوس الإسرائيلي "إيلي كوهين" الذي نجح في التخفي والتدرج بالمناصب في سورية حتى كان أبرز المرشحين لرئاسة الجمهورية هناك، حتى اكتشف أمره وصدر الحكم بإعدامه، ملمحاً في المقال بصورة قوية جداً إلى احتمالية وجود اختراق مماثل في دول عربية أخرى، خاصة في المناصب القيادية فيها، متسائلاً "من يضمن إذن أن ذلك المسؤول أو ذاك، ليس من أب يهودي، أو أم يهودية، أو هما معاً؟!"، مضيفاً "قد يكون هناك إيلي كوهين في عواصم عديدة بالمنطقة الآن. إذا كانت قد فعلتها في عز المد القومي العربي، ما الذي يمنع في ظل حالة الوهن والترهل الراهنة؟!"

أثار المقال ضجة واسعة، خاصة أن كاتبه بالتأكيد لم يكن ليجرؤ على كتابة مثل هذا الكلام إلا بإيعاز من بعض الجهات التي تحميه وتتعهده، كما أن الصحيفة لم تكن لتجرؤ على نشره ما لم تكن مطمئنة إلى العواقب. وتبع المقال حديث متواتر وتلميحات من بعض الشخصيات العامة الأخرى، مثل الدكتور يحيى القزاز، القيادي في حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، الذي كتب عدة مرات على حسابه بموقع "فيسبوك" إن "كوهين لن يحكم مصر كما لم يحكم سورية" وكتب مرة أخرى واصفاً بعض الأشخاص الذين لم يحددهم بالضبط بأنهم "خدم في خدمة سيدهم مجهول النسب" كما رأى في تدوينة ثالثة أن الخلاف مع السيسي يدور حول هوية ومستقبل وطن "نراه مصرياً عروبياً ويراه صهيونياً" على حد قوله. كما طالب برحيل "إيلي كوهين سريعاً بأي طريقة وبأي شكل قبل أن يفرط في الأرض كلها لأهله الصهاينة" في إطار حديثه عن خطة أميركية لإقامة دولة فلسطينية بسيناء. وأضاف في تدوينة أخرى "لا يجب أن يكون رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة رئيساً متصهيناً إن لم يكن صهيونياً".

أما المفكر نادر فرجاني، رئيس فريق تحرير تقرير التنمية العربي، فقد لمح هو الآخر عدة مرات لهذا الأمر، إذ وصف علاقة "الأخوة" بين السيسي وإسرائيل بأنها حتماً جاءت "من ناحية الأم" على حد قوله. كما اعتبر أن إسرائيل ستعلن السيسي "مواطناً فخرياً" نتيجة سياسته المتقاربة مع إسرائيل. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأنه "أبو نسب" في تلميح ساخر لوجود صلة قرابة بين الأخير وبين السيسي، بالإضافة إلى عشرات التعليقات الأخرى المماثلة.

التلميحات تحولت إلى اتهامات صريحة وجهها الصحافي بمكتب جريدة "تليغراف" البريطانية في القاهرة مجدي سمعان، إذ أكد أن السيسي والدته يهودية، وأن الأخير "يجب أن يكون باراً بأخواله الذين أوصلوه لحكم مصر!، مضيفاً "بالمناسبة لم يكن لدي مشكلة مع التطبيع قبل أن يتولى عميل إسرائيلي حكم مصر"، معتبراً أن تلك المعلومات إن صحت فإننا سنكون أمام مخالفة دستورية في شروط الترشح للرئاسة التي تشترط أن يكون الرئيس من أبوين مصريين، وهو ما يقتضي عزل السيسي، فضلاً عن التحقيق فيما إذا كان هناك اختراق من دولة أجنبية لمنصب رئيس الجمهورية، مطالباً مجلس النواب بالتحقيق في الأمر.

استعان سمعان كذلك بروابط من موقع قناة "سي إن إن" الأميركية، كانت تؤكد أن والدة السيسي اسمها "مليكة تيتاني" قبل أن تقوم القناة بتعديل الاسم إلى "سعاد محمد" بعد ذلك، لكن النسخة القديمة من الرابط مازالت موجودة. كما اتهم سمعان السيسي بأن خاله عضو في "قوات الهاجناه وحزب بن جورين" التي كانت تطرد الفلسطينيين من أراضيهم أثناء نكبة 1948. وفقاً لمواقع مغربية قالت، إن والدة السيسي يهودية مغربية من عائلة "صباغ" التي هاجر معظم أفرادها لإسرائيل وانضموا في عام 1951 إلى حزب ماباي، بينما بقيت والدة السيسي في مصر.

وعلق الكاتب أمين المهدي برابط من موقع المحاربين القدماء الأميركي، بقلم البروفيسور كيفين باريت، خبير مكافحة الإرهاب، يتحدث عن السيسي باعتباره "اختراق إسرائيلي لحكم مصر". المهدي ذكر، أيضاً، أن والدة السيسي اسمها بالكاملMalikah Titani isimli Yahudi bir kadın، وفقاً لسجلات النفوس المدنية المغربية. قائلاً، إن السيسي لم يدخل الكلية الحربية مباشرة، ولكنه دخل الثانوية العسكرية وهو طفل، مضيفاً أنه إذا صحت تلك الأنباء فإن السيسي يعتبر يهودياً، لأن اليهودي شرعاً هو اليهودي من ناحية الأم، معتبراً أنه بالنظر إلى "تخريبه للمصالح الاستراتيجية لمصر أقلها حقوقه في مياه النيل ورهنه للقناة نتيجة مشاريع فاشلة وإعلانه الحرب على شباب مصر وقطع الأواصر الوطنية بين الجيش والقضاء والشرطة وبين المجتمع وتحويل الجنرالات والقضاة والمخابرات والشرطة إلى كروش ومحافظ نقود متحركة معناه أن مصر تعيش كارثة وطنية سوداء".

اللافت هنا كان تعليق أحد النشطاء الذي علق، معتبراً أن ما قاله سمعان هو كلام مهم، لكنه أضاف، أن اعتباره ذلك الكلام مهما إنما هو بعيد عما سماها "تخاريف" الإسلاميين الذين كانوا يؤكدون أن السيسي أدخل الإسلام إلى الجيش، وكان يبكي في صلاة الظهر، ثم تحول عندهم إلى "ابن اليهودية" الذي يحارب الإسلام.


محاكمة الضباط

في أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي، ظهر تحقيق استقصائي قام به الصحافي والناشط الحقوقي حسام بهجت، تناول فيه تفاصيل محاكمة عسكرية خضع لها عدد من ضباط الجيش المصري، بزعم قيامهم بالتخطيط لاغتيال السيسي.

أثار التحقيق ضجة واسعة، لكن ما ساهم في انتشاره بصورة أكبر هو استدعاء حسام بهجت في المخابرات الحربية للتحقيق معه حول ما نشره، قبل أن يفرج عنه.

لكن الناشط الحقوقي ومقدم برنامج "حقنا" التلفزيوني، هيثم أبو خليل، كان قد كشف عن نفس القضية قبل تحقيق بهجت بنحو 5 أشهر، أي في مايو/ أيار 2015، في سلسلة من الكتابات على صفحته بموقع "فيسبوك"، وكذلك في برنامجه على قناة الشرق الفضائية. ورغم ذلك لم يشر تحقيق بهجت إلى ما قام به أبو خليل، مكتفياً بالقول، إن القضية تمت الإشارة إليها "على مواقع وقنوات فضائية موالية لجماعة الإخوان تبث من خارج البلاد". رغم أن قناة الشرق كانت مملوكة لرجل الأعمال باسم خفاجي قبل أن يشتريها السياسي المصري الليبرالي أيمن نور. وإذا كان الإعلاميون الموالون للنظام يقنعون البسطاء أن كل من يعارض السيسي ينتمي للإخوان، فكيف سقط بهجت في ذلك الفخ؟.

كان أبو خليل قد كشف عن تفاصيل ورقم القضية وعدد المتهمين وأسمائهم ومؤهلاتهم ورتبهم العسكرية، والتهم الموجهة لهم، وعن ارتباط أحد المتهمين باللواء توحيد توفيق، قائد المنطقة المركزية العسكرية. كما عرض لائحة الاتهام، ونشر صور الضباط المتهمين، كما كشف عن اتهام القياديين في جماعة الإخوان حلمي الجزار ومحمد عبدالرحمن في القضية، وأجرى حواراً مع محامي وصديق أحد الضباط المتهمين.

وتحدث بالتفصيل عن تاريخ بعض هؤلاء الضباط. حتى إنه كشف عن اسم ضابط المخابرات الحربية الذي قام بمراقبة الضباط وألقى القبض عليهم. وكشف كذلك عن اسم القاضي العسكري الذي رأس المحكمة وأصدر الأحكام، كما كشف عن تكريم أحد هؤلاء الضباط من قبل صدقي صبحي وزير الدفاع قبل أيام من القبض عليه.

أيضاً، تابع أبو خليل تطورات القضية، وأعلن عن الأحكام التي صدرت ضد المتهمين فور النطق بها، وكذلك التصديق عليها، وتابع مرحلة الطعن على الحكم أمام المحكمة العليا للطعون العسكرية. لكن بعض المتابعين ومستخدمي مواقع التواصل شككوا في القضية واعتبروا أنها مختلقة، حتى نشر حسام بهجت التحقيق الخاص به، وحينها صدقوه.

يرى أبو خليل في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن ما كتبه حسام بهجت لا يختلف كثيراً عما كشفه قبل أشهر، فالتفاصيل تقريباً واحدة، لكن الفارق في رأيه يكمن في العلاقات الواسعة التي يتمتع بها حسام بهجت وغيره من النشطاء في التيارات المدنية اليسارية والليبرالية، وأنه ربما كان هذا هو السبب في الاحتفاء بتحقيق بهجت رغم نشره بعد بداية القضية بأشهر. وبالطبع ساهم استدعاء حسام بهجت للتحقيق من المخابرات الحربية في ذيوع الأمر ونسبته إلى الأخير وكأنه أول من قام بنشره.

وكشف أبو خليل أيضاً، أن موقع "بي بي سي" كان قد نشر الأحكام الصادرة ضد الضباط المتهمين نقلاً عنه في أغسطس/ آب 2015، لكن الموقع حذف الجزء المتعلق به في الخبر بعد ضغوط وهجوم من بعضهم على مواقع التواصل. لكن نص الخبر الأصلي مازال موجوداً بعد أن نقلته مواقع أخرى قبل تعديله.


أين الحقيقة؟

بعد أن كتب الدكتور عمرو الشوري، عضو مجلس نقابة الأطباء، في حسابه على فيسبوك، إن مشكلته الأساسية مع السيسي "هي أنه جاء بانقلاب عسكري على ظهر دبابة، وقتل آلافاً وسجن آلافاً"، رد عليه عدد من متابعيه، إنه لا ينبغي لواحد مثله "يساري وعلماني" أن يتبنى وجهة النظر والخطاب السياسي الخاص بالإخوان عن طريقة وصول السيسي إلى السلطة، ودعا عدد منهم الشوري إلى عدم إطلاق كلمة "انقلاب" بشكل صريح والحذر من استعمال تلك الكلمة، حتى لا يعتبر ذلك ترويجاً لخطاب "جماعة رجعية". وبالتالي صارت المشكلة لدى صاحب التعليق هي "التشبه بالإخوان" بغض النظر عن الموقف الصحيح والتحليل الحقيقي للأحداث.

تلخص تلك التعليقات المشكلة التي نواجهها في مصر، بعد تصاعد الاستقطاب حتى بلغ ذروته في 30 يونيو 2013، إذ لا ينبغي لك أن تسمي الأمور بمسمياتها الصحيحة، ويجب أن تختلف مع خصومك السياسيين حتى في أبسط القواعد والبديهيات لمجرد الاختلاف ليس أكثر.

على الجانب الآخر، يمكن أن يجادل آخرون بأن الحقيقة ليس من المفترض أن يكون لها وجه واحد فقط، وأن لها وجوهاً متعددة في كل زمان ومكان. وأنه من الطبيعي أن المجتمع الذي يتسم بالاستقطاب، أن تنتشر فيه ظاهرة أن أنصار كل طرف يتعاملون مع ما يقوله الطرف باعتباره غثاً من القول، والعكس صحيح، فإنهم يقدرون كل ما يصدر من تيارهم والمقربين منهم، حتى لو كان متشابهاً مع ما يقوله الخصوم. وبالتالي فإن انحيازات الإنسان وعواطفه وأيدولوجيته تؤثر بشكل كبير على قراراته أكثر من المعلومات الموثقة.

لكن مثل هذه المناكفات والمزايدات يمكن أن تكون مقبولة في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة، مثل حالة ترشيح ترامب وقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، لأن مؤسسات الدولتين مستقرة وتقاسم السلطة بها لا يواجه أي تهديد أو هيمنة من قوى سلطوية أو عسكرية، وبالتالي يصبح الأمر مفهوماً. أما في وطننا العربي، فقد كان لدينا ديمقراطيات ناشئة في مراحل انتقالية، بعد الربيع العربي، وبالتالي فلو كانت الأطراف في تونس مثلاً قد انصاعت لتلك المناكفات لأصبح مصيرها مثل ما جرى في مصر، كما يمكن القول، إنه في حال استمرار الوضع على ما هو عليه في مصر، فإنها ستظل أسيرة لهذا الاستقطاب، ولن تقوم لها قائمة. وتلك هي مكمن الخطورة الحقيقية في تلك الظاهرة.