الحضور السينمائي للبناني كميل سلامة: في معنى الأداء الصافي

02 أكتوبر 2017
كميل سلامة... تنويع جمالي (فيسبوك)
+ الخط -
يستحيل فصل الأنماط الفنية، الخاصّة باللبناني كميل سلامة، في سيرته المهنية. أنماط تصنع حضوراً، مفتوحاً على اختبارات ومواقف، تنبثق من مفهوم أصيل لمعنى الاشتغال الفني: الإحساس. البوح سمة، تُضاف إليها سمات عديدة، كالتمرين والتجديد وتفعيل كلّ تواصل حاصل بين الفنان والمحيطين به. اتّخاذ موقف جزءٌ من سيادة اللغة الفنية العميقة، في مقاربة أحوال وحالات ومسالك؛ والتوازن بين مستويات كلّ عمل فعلٌ جوهريّ، يُبنى عليه العمل، وتُبلور فضاءاته وأشكاله ومعانيه بفضله.

تمثيلٌ وإخراج وكتابة، ومتابعات تقنية وإنتاجية، يخوضها كميل سلامة في المسرح والتلفزيون، قبل السينما. لن يعكس هذا غزارة في الكمية، بل جمالية في النوعية. البداية مسرح، والشاشة الصغيرة تُشكِّل امتدادا جمالياً لخوض تجربة الانصهار بين إنتاج يطمح إلى بلوغ أعلى نسبة ممكنة من المُشاهَدة، ونتاج يعلو فيه قولٌ نافعٌ وسجاليّ وحيوي وحسّاس، بلغة بسيطة وهادئة وعميقة. المسرح أكثر خصوصية. العناوين منبثقة من رغبةٍ عميقة لديه في تعرية اجتماع وسلوك وتربية، وفي مقاربة الحكايات بمنحى يكترث بالتجاريّ، لكنه لن يفقد ميزة السجال، الحاد أحياناً.

للأطفال أو عنهم، يخوض كميل سلامة معركة إنقاذ المسرح من تسطيحٍ وسذاجة يعتريان أعمالاً كثيرة حينها (ثمانينيات القرن الـ 20 تحديداً). لكن، قبل هذا وذاك، يكشف من يُصبح لاحقاً المحامي وجدي وهبة ("القضية رقم 23" للّبناني زياد دويري) بواطن الأداء التمثيليّ في أعمالٍ مسرحية، تواجه حُطام الفرد، كي تخرج ـ به ومعه ـ إلى منافذ ملتبسة. هذا زمنٌ قديم: مسرح لبناني يقتبس عناوينه ويُلبننها، صانعاً ـ مع جيلٍ تأسيسيّ لاشتغال محليّ ـ معالم لغة وثقافة واختبار، في زمن انهيارات عربية مدوّية. هذا زمن سابق لنتاج تلفزيوني، ولعمل سينمائيّ سيأتي متأخّراً، متيحاً له ممارسة لعبته المفضّلة: التمرين على فعل التمثيل، لإخراج الأفضل والأقدر على ترجمة أحاسيس ومواقف وحالات.

سيرته المهنية طويلة. والمهنة، هنا، نتاج خالص من معرفة وصدق وشفافية، تُحصِّن كلّها الفنان، بمنحه لحظات كثيرة من إمكانية ممارسة كلّ تجديد ممكن، في صراع دائم مع تفشّي الخراب. معرفة تحول دون وقوع في فخّ المتداول، المفتوح على تسطيح واستهلاكٍ وخواء، فتُعينه على ابتكار الأجمل والأفضل والأحسن، في زمن انكسار وخيبة.
في السينما، يمارس كميل سلامة أمراً آخر في التمثيل. يقول إنه، أمام الكاميرا (أي مع المخرج)، يُصبح ممثلاً فقط. هذا جزءٌ من جماليةِ علاقةٍ متينة بسينمائيّ، يرى فيه ما لن يراه آخرون: إنْ يكن دوره أساسياً أو لا، يتمكّن دائماً من إمساك جمالي بمسارات حبكة وشخصيات وتفاصيل.

مثلٌ أول: "غدي" (2013) لأمين دُرّة. يحتل سلامة مكانه بعيداً ـ إلى حد ما ـ عن النواة الأساسية للحبكة. لكن حضوره ـ مُضافاً إلى الشخصية التي يؤديها، والمكانة التي تحتلّها هذه الشخصية، وأدوات اشتغاله المرتكزة على نبرة أو نظرة أو حركة أو ابتسامة (تكون، غالباً، ملتبسةَ معانٍ وإشارات وإيحاءات) ـ يتحوّل سريعاً إلى ركيزةٍ تنفرد بمكانتها الأعمق من أن تُختصر بأوصاف مكتوبة. مثلٌ ثان: "عكر" (2013) لتوفيق خريش. أبٌ مختفٍ إلى حين، وظهوره دعوة إلى محاسبةٍ ومصالحه، وارتباطه بالسياق لن يتأخّر في إعلان تأثيره الأساسيّ. هذا كلّه معطوفٌ على ما يمتلكه سلامة من طاقة تؤثّر في المشهد ومساره وتبدّلهما، كأن يكتفي بصمتٍ أو بعينين تنظران، فتحملان ـ في نظراتهما وصمتهما ولمعانهما ـ أكثر من قولٍ وخيبةٍ وابتسامة خفيّة؛ بل أكثر من مجرّد مغفرة تمنحه هناءً مطلوباً، في موتٍ منتظر. مثلٌ ثالث: "طالع نازل" (2014) لمحمود حجيج. اختبارٌ أدائيّ مختلف، وتمثيلٌ محتاجٌ إلى صوتٍ يمتلك خصوصيات، مطلوب من الشخصية (طبيب نفسي) الإعلان عنها، من دون أي حركة أو شكلٍ، إذْ تجلس الشخصية على مقعدها، مديرة ظهرها إلى كاميرا تذهب إلى أفرادٍ يأتون العيادة ـ في اليوم الأخير من السنة، قبل السهرة الموعودة ـ كي يُخرِجوا ما فيهم من مواجع وتمزّقات وارتباكات، لكنها (الكاميرا) تعجز عن بلوغهم ـ هم الذين يواجهونها مباشرة ـ من دون المرور به، هو المكتفي بجلوسٍ وصوتٍ كي يُحرِّك اللعبة، ويصنع من الكلام تكثيفاً لأحوال بيئات وأناسٍ وانكسارات وموت وعشق وحطام، لن تنكشف جمالياتها كلّها من دون كميل سلامة، الممثل الأصيل، الذي يُخرج ما فيه برويّة، يُترجمها بنبرة تقول، وبحالةٍ تسعى إلى منح القادمين إليه بعض أمانٍ، أو بعض راحة، لكن بالتأكيد بعض تحريضٍ على مزيدٍ من أداء أجمل.

أما المحامي وجدي وهبة، فسيكون انعكاساً بديعاً لمعنى التكثيف الدرامي، كخلاصة للسياسي والاجتماعي والنفسي، المنبثقة من حِرفية أداء تتفوّق على كل السابق عليها، مُعلنة معنى اختزال التاريخ والراهن داخل مكتبٍ أو قاعة محكمة. والاختزال معقودٌ على نبرة تُصيب، ونظرة تقول، وسردٍ يفتح بعض ذاكرة، وحركة تضجّ بهاء في اختبار قدراتها على إكمال التفاصيل والمتن معاً.


المساهمون