بعد تردد وتلكؤ لثماني سنوات، بدأ فرض العقوبات ومحاصرة سورية عملياً، لنرى، بين ليلة وضحاها، نفاد المشتقات النفطية من الأسواق ورفع سعر البنزين والمازوت بالسوق الهامشية، إلى أعلى من السعر العالمي، وبدء تهاوي الليرة السورية، ليتعدى سعر الدولار 560 ليرة، بخسارة للعملة السورية فاقت 20% منذ مطلع العام الحالي.
وتزامن الضغط الأميركي، إثر قرار وزارة الخزانة بالخامس والعشرين من شهر مارس/ آذار الماضي، والذي أخذ مفعولاً رجعياً لمعاقبة السفن التي أمدت نظام الأسد بالنفط منذ ثلاثة أعوام، تزامن مع إيقاف "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، المسيطرة على أهم الحقول السورية، إمداد الأسد بالنفط، وإغلاق قناة السويس بوجه السفن المتجهة للمياه السورية.
وطفت، بواقع الفوضى والتخبط والغلاء بسورية، على السطح أسئلة: لماذا لم تطبق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بل وحتى الدول العربية، العقوبات التي صدرت بحق نظام الأسد منذ منتصف عام 2011؟ وما هي التوقعات إن استمرت العقوبات، وقد صدر ما يسمى قانون "سيزر" الذي صادقَ عليه الكونغرس الأميركي منذ 22 ديسمبر/ كانون الأول الماضي؟
أم أن هدف العقوبات ليس إسقاط النظام السوري أصلاً، بعدما حقق كامل دوره الوظيفي، فقضى على المؤسسة العسكرية والبنى الاقتصادية، وأبقى إلى جوار "إسرائيل" دولة منهكة وفاشلة تحتاج لعقود، ربما، لتلملم جراحها وتبدأ بالعد التصاعدي للنهوض؟
ربما بالمثال العراقي إجابة عملية عن تلك الأسئلة، أو معظمها على الأقل، فالحصار الذي فرضه "التحالف الدولي" على العراق، بعد حرب الكويت عام 1991، لم يؤثر على النظام العراقي بل مات آلاف الأطفال جراء نقص الحليب ومئات آلاف العراقيين بسبب الفقر والجوع وانتشار الأمراض.
بل ومن يعود إلى ذاك التاريخ القريب، ربما يتذكر أن الرئيس العراقي وقتها ظل يدخن السيجار الكوبي حتى ما قبل إسقاطه عام 2003 بأيام، في حين انهار الدينار العراقي ودخلت البلاد بنفق الفقر والحرب والفساد، ولما تخرج منه حتى اليوم.
اقــرأ أيضاً
وليس من المثال العراقي فقط يمكن استنتاج مآلات الحصار وفرض العقوبات، بل ثمة أمثلة كثيرة، إن بدأت بكوريا الشمالية لا تنتهي بإيران والسودان، وجميعها تؤكد أن الطبقة الوسطى بتلك البلدان تلاشت، كما تهدمت البنى الاقتصادية وتضاعفت نسب الفقر والبطالة وانهارت العملات، في حين لم تتأثر الأنظمة، بل زاد إطباقها على رقاب الشعوب وبطونها، التي رضخت بالنهاية أمام حاجتها للبقاء على قيد الحياة والعيش.
نهاية القول: كان بالإمكان، وبمنتهى البساطة، ألا تصل أعداد المهجرين لنصف سكان سورية، وألا تزيد خسائر الحرب عن 300 مليار دولار، بل وألا تزيد نسب الفقر والبطالة عن 80%. بيد أن الهدف، ربما ومنذ البداية، كان سورية وشعبها وليس نظام الأسد.
اليوم، وبواقع المستوى الجديد من التعاطي مع نظام الأسد، من الصعب، ربما، تحديد المشهد المستقبلي لسورية، إن استمرت الولايات المتحدة بتطبيق العقوبات، وأتبعتها بقانون "سيزر" والإيعاز للدول العربية بتجميد علاقاتها مع نظام الأسد، بعد فورة "التطبيع" التي قادتها الإمارات ونفذها المطاح به عمر البشير قبل أشهر.
اقــرأ أيضاً
لكن ذلك، وأياً كانت العقابيل، لن تؤثر على نظام بشار الأسد بقدر ما سيدفع السوريون الثمن، في حين يمكن تحديد أشخاص من داخل النظام ومعاقبتهم وملاحقتهم دولياً على نحو جاد وفاعل، وليس عبر فتوحات قولية وتصريحات إعلامية، كما رأينا منذ بدأ الأسد ورجاله بسفك دماء السوريين الذين طالبوا بالحرية والكرامة في مارس/آذار 2011.
إذ ربما يضعف نظام الأسد بعد تبديد احتياطي المصرف المركزي وتفاقم الديون على سورية، لكن ذلك الضعف سيدفعه لقبول الشروط الدولية المتفق حولها، من عيار تشكيل لجنة دستورية وبدء مسرحية الانتخاب والحوار السياسي، بل وحتى الابتعاد عن الحضن الإيراني.
لكن ذلك لن يسقطه، ليبدأ السوريون برسم ملامح مستقبلهم، لأن سقوط الأنظمة المستبدة، ووفق التجارب الدولية، قلما يأتي من بوابة الاقتصاد، بقدر ما يحدث بإرادة دولية، على الأرجح ضمنها الوريث بشار الأسد في صالحه منذ أجّر وباع ثروات وأراضي السوريين، وضمن حدود "إسرائيل" وأمنها... بل وأهداها حتى رفات قتلاها.
لكن ذلك لن يسقطه، ليبدأ السوريون برسم ملامح مستقبلهم، لأن سقوط الأنظمة المستبدة، ووفق التجارب الدولية، قلما يأتي من بوابة الاقتصاد، بقدر ما يحدث بإرادة دولية، على الأرجح ضمنها الوريث بشار الأسد في صالحه منذ أجّر وباع ثروات وأراضي السوريين، وضمن حدود "إسرائيل" وأمنها... بل وأهداها حتى رفات قتلاها.