الحريات لا الإرهاب جوهر النزاع في الخليج

01 يوليو 2017
+ الخط -
سحبت السعودية والإمارات والبحرين، في مارس/ آذار 2014، سفراءها من الدوحة، بسبب تعاطف دولة قطر مع الانتفاضات الشعبية التي هبت عام 2011 في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، وقد نجحت تلك الانتفاضات في اقتلاع الأنظمة القمعية في تونس ومصر، ودخلت البلاد الأخرى في حروب أهلية ما زالت مستعرة بين دعاة التغيير ومناصري الأنظمة القمعية. وأنعشت رياح الربيع العربي روح النخب المتعلمة والمهمشة في دول الخليج الثلاث، فهبت تطالب بإصلاح نظم القرون الوسطى، على الرغم من القبضة الأمنية المتحكّمة. انتفض المهمشون الشيعة في المنطقة الشرقية بالسعودية في شكل مظاهرات، وتحرك البحرينيون الشيعة، وهم أغلبية السكان، بقوةٍ هزّت النظام هناك، وتداعى في الإمارات 133 من الأكاديميين والحقوقيين إلى رفع مذكرة تطالب بإجراء انتخابات مباشرة للمجلس الوطني الاتحادي، ومنحه صلاحيات تشريعية، فتصدّت الأنظمة الحاكمة لتلك الهبة بالأساليب الأمنية المعهودة من اعتقالات وتشريد وتفريق للتظاهرات بالقوة.
ولا تخلو علاقة هذه الدول مع قطر من منافسةٍ مستترة، كسبتها قطر في عدة مجالات. تميّزت قطر بأول مجلس بلدي ينتخب بعض أعضائه منذ 1963، والذي تطوّر إلى المجلس البلدي المركزي الذي ينتخب كل أعضائه بالاقتراع السري، وتشترك فيه النساء مرشحات وناخبات. وتصنف قطر بأنها الأكثر تقدّما في التنمية البشرية، ويتمتع مواطنوها بأعلى دخل للفرد في العالم. ونالت حق استضافة مباريات كأس العالم لكرة القدم في 2022، متفوقة بمشروعها
حتى على الولايات المتحدة الأميركية، فأصبحت أول دولة عربية تنال هذا السبق. وأعلنت الخطوط القطرية شركة الطيران الأولى في العام الحالي (2017). واشتهرت قطر بتأسيسها قناة الجزيرة الفضائية التي فاقت كل القنوات العربية، وأصبحت تنافس القنوات العالمية، لما تميزت به من مهنية عالية وحرية واستقلالية، ودأبت دول الخليج في كل اجتماع لمجلس التعاون على الشكوى منها. وتلعب قطر دورا على الساحة الدولية أكبر من مثيلاتها الخليجيات، ما يثير عليها الغيرة والحسد. وترتبط قطر بعلاقاتٍ قوية مع دول لها نفوذها، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وتركيا وإثيوبيا وجنوب إفريقيا، فهي لا تقف وحيدةً حتى تُبتلع بين يوم وليلة.
الغريب في الأزمة الحالية أن الدول الثلاث التي أعلنت فجأة في الخامس من يونيو/ حزيران الماضي، بعد أيام من اجتماع قادتها مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، محاصرة قطر بإجراءاتٍ غير مسبوقة في العلاقات الدولية: سحب سفرائها من قطر وطرد سفراء قطر من بلادها، وسحب مواطنيها وطرد القطريين في ظرف أسبوعين، وقطع العلاقات التجارية والاقتصادية، وقفل ممراتها الجوية والبحرية والبرية في وجه الناقلات القطرية. أي أنها استنفدت كل (العقوبات)، ولم تستبق إلا الغزو العسكري! وهذا ما لم تفعله مع إسرائيل، ولا مع إيران. وتبعت الدول الثلاث مصر واليمن وموريتانيا، بسبب التبعية والإغراء والابتزاز. ويبدو أن الشخصيات المتنفذة التي اقترحت هذه الإجراءات العنيفة ضد قطر، هما ولي عهد أبوظبي وحاكمها الفعلي، محمد بن زايد، وولي ولي العهد (سابقاً) الأمير محمد بن سلمان، اللذان يختصان بعلاقة جيدة بينهما. فلا يعقل أن يقدم الملك سلمان، في عمره وخبرته، على إجراءات عنيفة غير مسبوقة ضد دولة شقيقة. وبدت الإجراءات غير مدروسة، لأن المطالب وحيثياتها كانت غير معدّة، وفات عليهم أن العالم كله سيسأل: ما هي جرائم قطر، حتى تستحق كل هذه العقوبات؟ ربما ظنوا أن مجرّد الضوء الأخضر من الرئيس الهاوي، دونالد ترامب، كافٍ ليمنح هذه العقوبات الشاذّة شرعيةً دوليةً، تجعلها قابلة للتنفيذ فوراً، وتضطر قطر بعدها أن تجثو على ركبتيها وتعلن التوبة والاستسلام. ونسوا أن التدافع سنةٌ ربانية كونية "ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الدنيا". وجاء السؤال عن المطالب "الواقعية والقابلة للتنفيذ" التي تريدها السعودية والإمارات من الحليف الأول الذي تستند إليه تلك الدول، وبلسان وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون.
وبعد ثلاثة أسابيع، خرجت الدول الأربع بقائمة هزيلة من 13 مطلباً أهمها: إغلاق قناة الجزيرة، تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع إيران، وقف إقامة قاعدة تركية عسكرية في قطر، إعلان قطع العلاقات مع منظماتٍ إرهابية، تسليم الأشخاص المدرجين على قائمة الإرهاب الموجودين في قطر، تعويض الدول المتضرّرة من سياسات قطر. سُلمت المطالب عن طريق دولة الكويت، وأمهلت الدول الأربع قطر عشرة أيام لتنفيذ شروط الإذعان، أو تصبح لاغية، وكأنها تنوي اتخاذ خطوة أكبر إذا لم يتم التنفيذ. وأحسب أن الدول المحاصرة بالغت كثيراً في خطورة عقوباتها، وفي قوتها الذاتية، وفي مساندة الولايات المتحدة لها في هذا الموقف الشاذ.
استطاعت قطر، في أيام قليلة، أن تحوّل وارداتها السلعية من السعودية والإمارات إلى تركيا وإيران. وبدلاً من تخفيض علاقتها بإيران، دفعها التهديد إلى تقوية العلاقات، ما أقلق حليفتهم الولايات المتحدة، واكتسبت القاعدة العسكرية التركية وجاهة أكثر، إذا خطر ببال أي من الدول المحاصرة ارتكاب حماقة في حق قطر. أما قائمة الإرهاب المدّعاة فتضم 59 شخصا و12 تنظيماً معظمها لم يُعرف بالإرهاب، أو يُوضع في قوائم الأمم المتحدة. ضمت الشخصيات 17 قطريا و26 مصرياً، وضمت التنظيمات خمسةً قطرية وستة بحرينية، ما يدل على أن للدول المحاصرة النصيب الأكبر في تربية الإرهاب الذي نشأ في سجونها وتحت نظامها القمعي. وأثبتت الحوادث التي وقعت في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في الولايات المتحدة، وتلك التي
وقعت في داخل السعودية، أن معظم مرتكبي تلك الحوادث سعوديون ومصريون. ومصطلح "السلفية الجهادية" التي ولدت "القاعدة"، وبعدها "داعش"، صناعة سعودية بامتياز، كفلتها السعودية بالمال والفكر الوهابي في حقبة الثمانينيات في أفغانستان، ثم انتشرت في أركان العالم. ولا أعرف تعريفاً للإرهاب يمكن أن يشمل عالماً جليلاً بلغ التسعين عاما، مثل الشيخ يوسف القرضاوي الذي يُعتبر في العالم شيخ أهل السنة في هذا العصر. لقد تم اختيار قائمة الإرهاب بناءً على هوى تلك الأنظمة القمعية من المعارضين لها. وظهرت الروح القمعية في إعلان دولة الإمارات تحديد عقوبة 15 سنة لأي مواطنٍ يكتب تغريدة في الإنترنت يمدح فيها قطر، أو يخطئ العقوبات المفروضة عليها! هل هذه دولة تعيش في القرن الحادي والعشرين؟ وتطلب، بلا خجل، من الحكومات الديمقراطية الحرة في أميركا والغرب أن تسندها في موقفها المستبد ضد قطر. ويشبه ذلك مطلب إغلاق قناة الجزيرة التي حجبت تلك الدول موقعها الإلكتروني، ما يدل على خوف مرعب من حرية التعبير والإعلام. أما طلب "تعويض الدول المتضرّرة من سياسات قطر"، فهو مما تفوح منه نكهة "الرز" التي قال بها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، مرة.
وليس متوقعا أن تستجيب قطر لمعظم تلك المطالب المتعسّفة التي تنتهك سيادتها على أراضيها واستقلالها وكرامة مواطنيها. ومن المستبعد أن أميركا مهما أغدق عليها تستطيع أن تؤيد تلك المطالب غير المبرّرة، وقد قالت إنها تؤيد وساطة الكويت، وتسعى إلى العمل معها لحل الأزمة عبر حوار أخوي. ويستعجل وزير الخارجية الأميركي حل الأزمة، لأنها تعوق التحالف في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ما يعني أن الضغط الأميركي سيتوجه أكثر إلى الدول المحاصرة منه إلى قطر. وقد انقلب السحر على الساحر.
3807E1A6-3AFD-44AC-ADEE-DB0CC389845B
3807E1A6-3AFD-44AC-ADEE-DB0CC389845B
الطيب زين العابدين

كاتب وأستاذ جامعي سوداني، ماجستير في العلوم السياسية جامعة لندن 1972، دكتوراة جامعة كمبردج 1975. عمل محاضرا وأستاذا في جامعة الخرطوم، الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد، جامعة الإمام محمد بن سعود، جامعة بيرمنجهام.

الطيب زين العابدين