سيطرت عقدة الذنب على الفرنسية من أصول جزائرية دليلة كرشوش، منذ فترة المراهقة، إذ ضايقها الماضي "العَكر" لوالدها المصنف ضمن الحركيين الذين قاتلوا وتخابروا مع الجيش الفرنسي أثناء حرب تحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي.
تلخص دليلة المشاعر المسيطرة عليها بأنها "عار، تمرد، ظلم، غضب، دموع، رغبة في الصراخ وفي الضرب" قائلة في كتابها "أبي، هذا الحركيّ":"أبكي من حالتي وأمتلئ غيظا لأنّي لم أخْتَر أن أكونها. أجرّ حقدا ضد أبي وضدّ بلدي الأصلي وضدّ البلد الذي أعيش فيه، وضد نفسي، إنه جُرْحي الحميمي وحزني السريّ. مُهانةٌ يوماً، ومتمردة يوماً آخَر، وتائهةٌ بشكل مؤكد، لقد ركنتُ للصمت طويلا".
عاملت فرنسا، الحركيين الجزائريين باعتبارهم أهالي indigènes، (نظام للسكان الأصليين مطبق في المستعمرات الفرنسية منذ أواسط القرن 19، لا يعتبرهم مواطنين ويحرمهم من الجنسية الكاملة والحقوق الشاملة)، فيما اعتبرهم الجزائريون خونةَ، بحسب ما أوردت دليلة كرشوش في كتابها الصادر في عام 2003، والذي اكتشفت خلاله أن أباها لم يكن خائنا، ولا حركيا، بل كان عنصرا سريا في جبهة التحرير الوطني، ولكن وشاية بعضهم جعلته يفرّ إلى فرنسا. وأمام إلحاح الكاتبة على أبيها يُصدر هذا الاعتراف الملتبس، رفض قائلا "الجزائريون كانوا يعتبرونني خائناً، فهل كنتِ تريدينني أن أبدو كذلك خائناً في نظر الفرنسيين!".
الطابو الأخير
في سبتمبر/أيلول الماضي، صدرت رواية "الحركي" للكاتب الجزائري، محمد بن جبار، الذي قابل أحمد بن شارف بطل الرواية، الذي ولد عام 1936 في غليزان غربي الجزائر ويعيش حاليا في مدينة دنكيرك شمالي فرنسا بعد تقاعده من الجيش الفرنسي، وعبر روايته سعى بن جبار إلى نقل الصراع والمعاناة التي يعيشها الحركي الجزائري وهو في اللحظات الأخيرة من العمر.
وتتفاوت التقديرات حول عدد الحركيين الجزائريين الباقين، وبينما يؤكد مؤرخون فرنسيون تخلي الجمهورية الخامسة (نشأت بعد انهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة في أكتوبر 1958)، عن ما بين 55 إلى 75 ألفاً من "الحركيين" في الجزائر، فيما استقبلت 60 ألفاً فقط في ظل ظروف سيئة جداً، مقدرين عددهم الحالي هم وعائلاتهم بحوالي 450 ألف نسمة، إلا أن المؤرخ الفرنسي بيار دوم، مؤلف كتاب "الطابو الأخير"، حدد أعداد الحركيين بالرجوع إلى الأرشيف الوطني الفرنسي بـ 450 ألف شخص يتوزعون على 250 ألف احتياطي، 120 ألف مجند، 50 ألف مقاتل و30 ألفا من الأعيان الموالين لفرنسا"، وكشف في تصريحات صحافية، أن 30 ألفا على أقصى حد غادروا إلى فرنسا وعاشوا في مناطق مختلفة في الجنوب الفرنسي، ما يعني أن 420 ألفاً بقوا في الجزائر، منتقدا المبالغات في عدد قتلى الحركيين من قبل جيش التحرير الوطني الجزائري.
وينتظر المؤرخون سنة 2022، حتى يُسمَح بالاطلاع على بعض أجزاء الأرشيف المتعلقة بالثورة الجزائرية، ما قد يحسم الجدل حول العديد من قضايا الحركيين الجزائريين، وفق ما قاله القيادي في "حزب أهالي الجمهورية" والباحث في التاريخ يوسف بوسوماح.
وإذا كان يوسف بوسوماح قد نوّه باعتراف فرنسا الكولونيالية-الجديدة بجزء من تاريخها الكولونيالي الأسود، في ما يخص موقفها من الحركيين، إلا أنه أضاف بأن تاريخ فرنسا الكولونيالي لا يزال مغلقا في وجه الباحثين والمؤرخين، كما أنه شدد على أن النضالات ستستمر "حتى يُفرض على فرنسا الاعتراف بجرائمها ثم تقديم اعتذار عنها وأيضا جبر الضرر، سواء تعلق الأمر بتجارة الرقيق أو العبودية أو نهب ثروات الجنوب".
وفي الوقت الذي لم يتبقّ فيه عددٌ كبيرٌ من "الحركة" على قيد الحياة، إذ لا يتجاوز عدد الأحياء منهم 8 آلاف، يعتبر الباحث والمؤرخ الفرنسي مالك بزوح، صاحب كتاب "فرنسا- الإسلام: صدمة الأفكار الجاهزة"، أن "ملف الحركيين كان يجب أن يُغلق، قبل أن يرحل آخر الشهود عن هذا العالَم".
الجيل الثالث
ساعد كتاب "أبي، هذا الحركي" الشابة الفرنسية فاطمة أنور حفيدة حركي جزائري، على تجاوز كثير من العُقد النفسية، على الرغم من أن أباها ليس حركياً، وتروي الطالبة في علم الاجتماع في جامعة سان دونيه (باريس VIII)، والمنحدرة من مدينة ليل، قائلة بطريقة ساخرة: "ألَم يطالبنا ساركوزي بالافتخار بأصولنا "الغاليّة"، (بلاد الغال كانت تضم المناطق التي تشمل الآن فرنسا وبلجيكا، والجزء الألماني الواقع غرب نهر الراين)، حتى نندمج بشكل أفضل ونذوب في فرنسا؟! الوقتُ كفيلٌ بأن ينسينا هذا الجزء من التاريخ، وأن يفتحنا على آفاق جديدة".
لكن مراهنة فاطمة على عامل الوقت، لن تغير شيئا في النظرة الجزائرية إلى الحركيين ووضعهم، وهو ما يبدو من تصريحات المسؤولين الجزائريين وعلى رأسهم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي قال في يونيو/حزيران من سنة 2000 في البرلمان الفرنسي، أن بلاده مستعدة لفتح صفحة جديدة مع فرنسا، لكن من دون السماح للحركيين بالعودة إلى الجزائر إذ إن الشروط ليست ناضجة، مُشبّهاً هؤلاء بالخونة الذين تعاونوا مع النازية أثناء احتلالها لفرنسا.
الاصطفاف مع اليمين الفرنسي
في 25 سبتمبر/أيلول الماضي، اعترف الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بمسؤولية بلاده في التخلي عن "الحركيين الجزائريين" خلال مراسم رسمية خصصت لتكريمهم في باريس، قائلا في احتفال رسمي بهذا اليوم الوطني الذي تمّ إقراره في 31 مارس/آذار 2013، وبحضور رئيس الجمهورية الأسبق نيكولا ساركوزي ومارين لوبان رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف وفرانسوا كوبي الزعيم السابق لحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية (يمين وسط): "أعترف بمسؤوليات الحكومات الفرنسيّة في ما يتعلق بالمجازر التي تعرّض لها من بقي منهم في الجزائر، وأيضا بشروط الاستقبال غير الإنسانية التي قوبل بها من تمَّ تسفيرُهُ إلى فرنسا".
وعلى الرغم من الغزل الذي لم يتوقف عنه جان ماري لوبان مؤسس حزب الجبهة الوطنية ومن ورائه ابنته التي أصبحت زعيمة الحزب، كما يقول فريد السماحي، القيادي السابق والمقرَّب من جان ماري لوبان، "إلا أنّ معظمهم رفض الاصطفاف في الحزب، والتجأ إلى أحزاب يمينية ديغولية تقليدية، بالرغم من الصورة السلبية للماريشال ديغول في نظرهم"، إذ لا يتردد بعضهم في اتهام ديغول "بارتكاب جرائم ضد الإنسانية" في حقهم، وهو ما يعترف به الجنرال الفرنسي فرانسوا مايير في كتابه: "الحركيون، جنود تم التخلّي عنهم" الصادر في فبراير/ شباط 2012، قائلا: "لم نتخيل حقيقةَ اتفاقات إيفيان، وانسحاب الجيش الفرنسي ووصول قوات جيش التحرير الوطني. لقد أصدر الجنرال ديغول قرارا ويجب طاعته، ولكن الأمر، بالنسبة للمسلمين المنخرطين في عين المكان، كان أسوأ الخيانات"، ولم يُخف ممثلو الحركيين ارتياحهم لهذا الاعتراف، إلا أنهم طالبوا بالتعويضات، ولم يتأخر، فرانسوا فيون، مرشح اليمين في رئاسيات 2017 في الاعتراف بأن فرنسا "ارتكبت أخطاء في حق الحركيين"، فيما كتب ساركوزي في تغريدة له: "مأساة الحركيين هي مأساة كل فرنسا".
الاختفاء عبر الذوبان في المجتمع
إذا كانت فرنسا اقد عترفت أخيرا بمسؤوليتها تجاه هؤلاء الحركيين، إلا أنّ الأمر سيبقى رمزياً، كما يقول لـ"العربي الجديد"، الباحث الفرنسي إليامين ستّول، لأنّك "لن تجد في فرنسا، من الآن فصاعدا، من يقول لك: إنه ابن حركيّ. الجيل الثاني والثالث لهذه الفئة، يحاولون، قدر المستطاع أن يندمجوا في المجتمع باعتبارهم فرنسيين"، كما أنهم "عبر حفاظهم على معتقدهم الديني الإسلامي لا يختلفون عن باقي الفرنسيين المسلمين"، وأكد الباحث ستّول أن "الكثير منهم، أثناء الحرب الأميركية البريطانية على العراق عبّر عن وفاء تجاه العراق، وزار بعضُهُم هذا البلد العربي الذي كان يخضع للحصار الظالم".
وأمّا عالِم الاجتماع الفرنسي قدور زويلاي فاعتبر أنّ "الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على حقّ حين وضع الأمور في نصابها، من قلب فرنسا، وحين شدّد على أن الجدال حول الحركيين هو جدلٌ فرنسي-فرنسي، ولا دخل للجزائر فيه".